الديكُ الفصيحُ من البيضةِ يصيحُ


خرج الرفاق مساء يوم ربيعي إلى حديقة أندلسية بحيهم للترويح عن النفوس. فهذا فيصلُ يقتني كيسا مملوءًا بعلب الياغورت، وهذا علي يقتني أكياسا صغيرة من الحِمِّص، وحبوب عباد الشمس. أما شيماءُ فقد اقتنت قنينات مياه وقنينات عصير. وهذا أحمد يحمل في يمناه كعادته في مثل هذه الخرجات حقيبةً مصنوعة من الدوم، وبها ماكولات حضَّرتها أمه بالبيت: خبز محشو بالعسل، وزبدة طرية، ومأكولات أخرى يفضلها أحمد وزملاؤه. وفي يده اليسرى حقيبةٌ أخرى مثلها وبها بعض المشروبات. 

وصل الأصدقاء حديقةَ حيهم، وقد وجدوا مكانهم المعتاد شاغرا، وفرحوا بذلك، وضعوا أمتعتهم، فهذا يسارع إلى الأراجيح التي انتظرت قدومهم بشغف بعدما لعبت بها الرياح، وهذا يركض بهيجا إلى فضاء الألعاب الثنائية، وتلك إلى إطعام الحمام الذي ألف بدوره تلك الحديقة لما يُنثر بها من حبوب من لدن محبي الطيور، وأخرى تبحث عن أزهار تقطفها... ولكن أحمدَ كان أعقلَهم؛ لقد رأى أنه من الواجب ألا ينصرف الجميع للعب، ولا بد من بقاء شخص عند متاعهم، وقد بقي أحمد وتأكد أن المكان نظيف كالمعتاد، لا شوك فيه ولا زجاج، وتاكد أن الأطعمة الموضوعة وضعت بالشكل المطلوب. 

قعد أحمدُ بالمكان، وتأمل رفاقه يلعبون ويمرحون. وبعد ساعة من اللعب والمرح مع لاصغار، أحسوا بالجوع، فركض صوبه الجميع. فتح أحمد قفتيه، ووزع ما فيها من أكلات شهية، وفتح فيصل كيسه ليوزع الياغورت، وفتح علي الأكياس الصغيرة ومزج بين الحمص والكاكاو وبعض الحبوب الجافة، فمد لكل صديق حفنة صغيرة، وأضاف له أخرى من حبوب عباد الشمس، ومنحت شيماء لكل واحد قنينة ماء وكأس عصير. 

في فضاء آخرَ غير بعيد، تقعد مجموعة أخرى من الأطفال. لاحظها عمران، فقال لأصحابه: "اتركوا بعض الأطعمة أزودهم بها، فمن العيب أن ينظروا إلينا ونحن منغمسون في الأكل، وقد لا تكون معهم مأكولات" وفي ظرف وجيز جمع عمران ما يكفي، ومنحه لهم، وشكروه وعاد. 

تناول البعض مأكولاته بتأن، وازدردها البعض الآخر، فرمى في الأرض مخلفات الحبوب الجافة، والقنينان البلاستيكية حتى يعود بسرعة إلى ساحة ميدان اللعب، وعاد إلى اللعب مَن عاد وبقي مع أحمد من بقي. 

في تلك اللحظة بالذات، استغل أحمد الحكيمُ الفرصة لينبه بعضهم عن سلوك مذموم، لأنهم فضلوا الاستماع باللعب مع رفاقهم فقط، وتحاشوا اللعب مع آخرين ممن طلبوا منهم ذلك. ولما عاد الجميع، لفت أحمد انتباههم ليجمعوا كل ما رموه في الأرض من مخلفات أطعمتهم في تلك الأكياس البلاستيكية إلى أن يصلوا مكان وضع صناديق القمامة. 

لبى الرفاق طلب أحمد بصدر رحب، وانصرفوا سعداءَ، وقد تخلصوا من القمامة في صندوقها بالحديقة، ورأى علي القفتين في يدي أحمد، فقال له منبهرا: 

- أي أحمد، أنت أعقل أطفال الحي حقا؛ نراك تحضر القفتين مملوءتين، وتعيدهما فارغتين، ولم ترمِ أي كيس، ولا أي قنينة في الحديقة!

- نعم. ما أسعد أمة تحترم الطبيعة وقانونَها! هنا يظهر نفع هذه الأكياس؛ إنها صديقة البيئة، لذلك أحب استعمالها إذا ما رافقت أبي إلى السوق، كما أستعملها في الخرجات على السواء. 

- تماما، فما أسعدك لأنك تحترم الطبيعة، وما أسعدنا بالطبيعة وبحكيمنا أحمد! حبذا أن ترافقنا إلى محل بيعها بالسوق حتى نقتني بدورنا مثلها قبل صلاة المغرب. 

- بكل فرح أحبتي. 

قصد الأصدقاء سوق المدينة، فوقفوا بمحل بيع قفف؛ محل كله منتجات طبيعية: قفف، وحصير، ولوازم، وأدوات مختلفة. رحب بهم البائع، وقال له أحمد مشيرا  إلى صحابه وقفتيه: 

- هؤلاء أصحابي، يريد كل منهما قفة مثل قفتي هذه. 

- مرحبا بكم جميعا يا صغار، المحل محلكم. ادخلوا، ولكم حرية الاختيار حسب أذواقكم، وحسب أحجام القفف وأشكالها. 

اقتنى كل منهم قفته، وشكرهم البائع، وقال لأحمد: 

- باقتنائكم هذه المنتجات ستساهمون في المحافظة على البيئة.

- تماما، لهذا أتيناك يا عمي. 

- أراك يا أحمد صغيرا، لكنك حكيم فصيح اللسان. ما سر حكمتك وفصاحتك، أتشعق مطالعة الكتب؟ أتجالس أهل العلم؟ 

الحكمة يا عمي ليس لها أعمار. نعم، أحب مطالعة الكتب، وقد أدمنت الكتب ولا أزال أعيش هذا الإدمان، والديك الفصيح من لابيضة يصيح. 

وانصرف الصغار إلى منازلهم، وفي يد كل منهم قفة من الدوم، وصاروا مثل أحمد في الذهاب والإياب.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بك في مدونة "اليراع الإبريزي" للتدقيق اللغوي، والتحرير، والتمحيص اللغوي، وتأليف القصص، والترجمة. كيف يمكننا مساعدتك؟

تربية وتكوين

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م). ليلة الفاجعة كما عشتها...   في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة ا...