سطور معبرة للرد على رسالة جميلة
ليحملها شاهين حتى تصل تالوين.
تارودانت الغالية، في: 21 رجب
1445 هــ/ 2 فبراير 2024م.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد
الله.
أي جميلة،
قرأت خطابك
في الرسالة المبعوثة لي من لدنك بمناسبة اطلاعك على عملي الأدبي "شوكة
شيهم"، وأعجبني منك الدقة في تأليف تلك السطور المعبرة، واستفادتك من
المقروء، وأكتب لك اليوم فأخبرك:
بأني
سعيد جدا أن أتلقى رسالة منك بوصفك ابنة تالوين، هذه المنطقة التي أعتز بها دوما،
منطقة أهل الكرم والعلم، ومنطقة الزعفران الطبيعي الخالص والصافي صفاء أهل منطقته.
ولا يفوتني في معرض ذكر هذا النبات النفيس أن أحكي لك مقطعين من يومياتي تلك:
الأول في سياق تجاربي ونوازلي مع الأساتذة في مرحلة التعليم الثانوي التأهيلي.
والثاني في سياق التحاقي بغرفتي بالحي الجامعي بمدينة أكادير أوائلُ شتنبر من السنة
الجامعية: 2005 – 2006، وهما كالآتي:
المقطع الأول
"...أما
الاجتماعيات فقد عاشرنا في حصصها أستاذا لطيفا، يدعى عبد الكريم إدموليد؛
رجل ينحدر من إقليم إذا ذكرته تبادر إلى ذهنك إقليم أجود أنواع الزعفران، ويتعلق
الأمر بمدينة تالوين، كان أستاذا يجد المتعة في دروس التاريخ أكثر من دروس
الجغرافيا، والشأن المحلي، وكان اسمه في غلاف دفتر النصوص مكتوبا بزعفران جيد، ذلك
أنه كان يكلفني بإحضار دفتر نصوصه من الإدارة فألجها وأقصد جهة وضع هذه الدفاتر،
وأراقب غلافه وأنا في طريقي إلى القاعة. ولم يخفَ علي هذا النباتُ النفيس لأني
شربت شايا وُضع فيه مرات عدة لأن والدي كان يحضر به الشاي إذا ما ضَيَّفَ في بيتنا
شخصيةً تستحق التضييف، كما لا يزال من المنتجات النفيسة التي أحتفظ بها ضمن
النفائس بالبيت اليوم..."
المقطع الثاني
"....بعد أيام قليلة، التحق بالركن الشاغر قبالة
ركني طالب من السنة الثالثة شعبة الكيمياء، يدعى الحسين فنزواي؛ ابن مدينة
تالوين، إنسان طيب المعاشرة، لا يتكلم كثيرا، ممتلئ البدن دون السمنة. يحترمنا
كثيرا ويراعي طبيعة طلاب السنة الأولى. له زعفران ابن بيئته، ولا تزول نكهته ولو
عبأنا البراد من جديد من حبوب الشاي الأول ذاتِه، ولذلك كثيرا ما نصحنا أن نترك
البراد جانبا حتى لا نتخلص من تلك الحبوب عند غسل الأواني حتى نستفيد من جديد من
شاي هذا الزعفران الحر الذي كثيرا ما أعادت جرعاته الرائعة ذكريات تضييف والدي
بعضَ أصدقائه، حيث إنني أشاركهم حديثهم رغم صغر سني، ولذلك رسخت في ذهني مشاركتُهم
إيايَ الشيءَ الكثيرَ. وهكذا شاركتُ العشرة مع هؤلاء الطلاب الثلاثة، وقد اختلفت
طبائعنا واختلفت مستوياتنا الدراسية وشعبنا، كما اختلفت وضعيتنا الاجتماعية، ولكن
نشترك في شيء واحد هو أننا جميعا ننحدر من الإقليم نفسِه (تارودانت)..."
لقد
صدقتِ حين قلت إن أهل المنطقة أقاموا حضارتهم بأنفسهم،
مستمدين أسسها من تراثها العريق، وثقافتها التي تميزها عن باقي المناطق. وقد أحسنت
قولا لأني عرفت نماذج كثيرين من طلابنا بمعهد تارودانت للتعليم الأصيل جسدوا ذلك
قولا وفعلا، ورأيت فيهم نماذج يحتذى بهم علما وخلقا. وقد ذكرت مآثر عمرانية مهمة
بالمنطقة، وفي صدارتها قصبة الباشا التهامي الكَلاوي، تلك القصبة التي تعد نموذجا
للتراث الحضاري بالمنطقة، وقد أشعل ذلك فتيل رغبتي في السفر لأزورها رغم أني
إنسانٌ قليل السفر بحكم نظام غذائي صارم أطبقه في حياتي وأجد فيه راحتي.
أثلج
صدري شغفُك بالقراءة، وحبُّك الكتاب، واهتمامك به، وقد أحسنت صنعا لما استهلت هذا
الاهتمام بقراءة القصص، وخير دليل على ذلك أن هذه القصص جعلتك تدركين جمال عالم الكتاب. ولا
أخفيك سرا حين أقول لك إنك اخترت مؤلفات قيمة استهلت بها هذا العالم، ومن خلال
عناوينها كشفتُ مدى سلامة ذوقك، وأرجو أنك حولت المعرفة التي اكتسبتها في قراءتك
هذا الكتبَ إلى قدرة تمكنك من التصرف السليم في حياتك. ولا أشك في أنها تحولت إلى
ذلك، وما هذه السطور المعبرة إلا دليل على ذلك.
يسعدني
كذلك أنك كنت سعيدة بعملي الأدبي (شوكة شيهم)؛ هذه السيرة الذاتية التي ألفتها لتوثق
حياتي. وشيهم حيوان له أشواك يتعاقب فيها الأبيض والأسود. ومسوغي في العنوان
أن الحياة أحزان وأفراح، يتعاقب فيها المحمود والمذموم. وكذلك جاء هذا العمل: أيام
الصبا، والطفولة، والشباب، والرشد بأحزانها وأفراحها. فشكل الجزء الأول من هذا
العمل مرآة تجارب ثمان وعشرين سنة: من عام 1992 إلى سنة 2020. وقد وصفت لك البداية
بـــ "العام" لأن العام يدل على خير، وفعلا كانت فترة بداية أحداث هذا
العمل خيرا كثيرا وطبيعة خلابة، وماءً كثيرا، بينما وصفت لك الفترة التي أقفلتُ
فيها أحداث الجزء الأول من هذا العمل بــ "السنة" لأن السنة تدل على
الخُطوب (المصائب)، وقد كانت 2020 السنة التي عكست الخطوب الجسام التي عكرت مزاج الناس صحيا، واجتماعيا،
واقتصاديا، وتربويا...
يسعدني
أيضا أنك تتبعت العمل بشكل دقيق، واستقيت منه فوائد عدة، وقد نالت
إعجابك منه نوازلُ وطرائفُ كثيرة: جدها وهزلها، ومنها ما ضارع بعض تجارب حياتك
بدورك، ولا شك أنه ذكرك بأيام جميلة رغم كل الإكراهات.
توقفتِ
كذلك عند عبارة ذكرتُها في عملي، وهي ردي على رجل رأى الكتب بيدي لما كنت أتجول
ذات يوم بدائرة بلدتي، وأنا طالب أتابع الدراسة بالجامعة، وقد تصورني الرجل شخصا
ناضجا راشدا، وقد طال عهدي بمصاحبة الكتب سيما وأنه يراني طيلة أيام الدراسة
الثانوية بالدائرة نفسها حيث تقع الثانوية التي تابعت فيها دراستي الثانوية. وقد
قال لي الرجل "ألا تزال الكتب تلازمك يا عبد السلام؟" فكان ردي:
"ليس للعلم سن محدد يا رجل، لا أزال أصاحب الكتب وسأظل كذلك". وهو جواب
ألهمك، وفي هذا الدليل الدامغ على حبك الكتاب. ويسعدني ذلك.
ألفيتِ بعملي أقوالا وعبارات وأبياتا شعرية راقتك كثيرا، منها: "كن صديقا للساقي
شتاءً حتى تكسب وده صيفا" وهو مَثَل في بعد النظر، حيث يقال لمن نحثه على
أن يخطط بشكل دقيق لبلوغ غايات كبرى، ويخلق لها الأسباب التي تقود إليها؛ ففي
الشتاء تقل حاجة الجسم إلى الماء، ولا أحد يطلب الماء من الساقي في الأسواق، ولكن
تكثر الحاجة إلى الماء في الصيف، ومن كان صديقا للساقي شتاءً كان الساقي أقربَ الناس إليه صيفا. ومن هذه الأقوال كذلك بيت شعري في مجال النقد، وقد كشفتِ أنه بيت
شعري يحمل معانٍ شتى. وهو قول الشاعر:
إن
الغصونَ إذا قوَّمتَها اعتدلَتْ ولنْ تلينَ إذا قوَّمتَها الخشُبُ.
وأشرح
لك البيت كالآتي:
كل
غصن يسهل تقويمه (إزالة اعوجاجه)، ولكن هيهات أن يزالَ اعوجاج الخُشب. يسهل تقويمُ الغصون واستقامتُها لأنها غضة لينة، ولكن إذا صارت خشبا اتسمت بالصلابة فلا يرجى
استقامتها ولا تقويمها. وهذا البيت الشعري بيت يوجَّه إلى كل أب وكل معلم ليَعْلَمَ أن
استقامة الأجيال تبدأ من الاهتمام بالنشء، أما إهمال النشء حتى يشيب فشأن تقويمه
كشأن من يقوم الخشب.
طرحت
أسئلة مهمة علي وهي:
- ما علاقة عنوان السيرة بمضمونها؟
- ماذا تعني شوكة شيهم؟
- لِمَ اخترت أن أكتب السيرة بدل غيرها؟
- هل سأكتبُ الجزء الثاني ومتى؟
- وهل سبق أن كتبتُ كتبا أخرى غير هذا العمل؟ وما
عناوينها؟
أجيبك
على التوالي كالآتي:
لقد أشرت إلى معنى "شيهم" في ما سبق ذكره
آنفا، وأهم ما يميز شوكة هذا الحيوان أنها شوكة يتعاقب فيها الأبيض والأسود، وهي
شوكة حادة مؤلم وخزها، ولكن في تعاقب اللونين بها جماليةً تنسي الموخُوزَ بها
الألمَ. وهكذا الحياة: بها أفراح وبها خطوب، يعيش فيها الإنسان أياما له وأخرى
عليه، يعيش لحظات الفرح ويعيش لحظات القلق، ومن عاش الحياة وَفق نواميس الكون،
وأدرك الغاية من خلقه وحياته، تمتع بالأفراح ونسي الخطوب والأحزان.
آثرتُ أن أكتب في جنس السيرة الذاتية بدل غيرها، وأقول لك
ما أوردته في مقدمة عملي نفسه: " كان هم التأليف من أكبر الهموم التي شغلت
بالي كثيرا، وكلما تذكرتُ هذا التدفق الرقمي الذي شهده القرن الواحد والعشرون، قلت
لنفسي لقد اعترى الاهتمام بالكتاب الورقي اضمحلال وإسفاف. ولكن لم يثن ذلك عزيمتي
عن الكتابة بوصفها جزءا من حياتي. وتأليف هذا العمل جاء وليدَ تأمل النفس قصد
معرفتها أكثر فأكثر. فقد حررتُ مقالات مهمة، في اللغة، والفكر، والتربية، والحياة
الاجتماعية، والطب، وعلوم الأغذية، وغيرها. كما نقلت فصولا من كتب إنجليزية في
مجال التربية والطب من لسانها الأم إلى اللسان العربي، منها ما نُشر في منصات رقمية
ومنها ما تحفظتُ على نشره. وكان علم الطب وفن الترجمة أهم الميادين المعرفية التي
أجد فيها ذاتي أكثر.
اعترتني حيْرةٌ في اختيار باكورة إنتاجاتي العلمية، فثمة
أعمال فكرية وأخرى طبية، منها كتابي أنا والطالب حسن أمين بعنوان "النواميس
السوية والقواعد الصحية التي نحيا بها"ومنها كتابٌ طبي لكاتب أمريكي قيد
الترجمة. ولكن آثرتُ بعدما أنهيتُ بعضَ فصوله أن أجعل "شوكة شيهم"
باكورة هذه الإنتاجات لما لحساسية موضوع الكتابين المذكورين سيما الثاني، ومن جهة
أخرى فضلت أن أوثق حياتي ما دامت أحداث كثيرة تشكل مادتها الخام راسخة في ذهني سيما
وأني لم أوثق هذه الأحداث في ورق ولا في أشرطة ولا في صور. والعلم صيد والكتابة
قيده، وأخشى النسيان وهو آفته.
وأقول لك إن كتابة السيرة الذاتية ليس بالأمر الهين
اليسير، ولكنه أمر صعبٌ عسيرٌ، فمن ذا يستطيع أن يعري نفسَه للناس إذا كان من
الصعب أن يعري جسده أمامهم؟ ولذلك حرصتُ على الصدق في كل ما كتبتُ، ولكن لم أُعرِّ
نفسي كل التعرية سيرا على نهج كتاب السير".
أما عن تحرير الجزء الثاني فإني أفكر في ذلك حتى يساير
الكتاب حياتي، ولكن أحببت أن يطول العهد بين الجزأين حتى أجد أحداثا كثيرة ليستوفي
الجزء الثاني الكفاية، لأن الأحداث في السرد بمثابة الحَب في الرحى، فكما لا دقيق
من دون حبوب، لا حكي من دون أحداث ونوازل ووقائع. وقد حَصَلَتْ فعلا أحداث منذ 2020
إلى وقتي الراهن، ولكنها غير كافية لتكون متنا للجزء الثاني من هذا العمل.
في سؤالك عن كتب أخرى ألفتها، أقول لك ما أوردته أعلاه،
لم أكتب سوى عملي هذا، وقد نشر إلكترونيا فقط على يد دار تونسية مقرها بباريس
(أرام للنشر والتوزيع)، وقد أنشره ورقيا متى انتهى سريان مفعول العقد المبرم بيني
وبين الدار المذكورة سيما إذا تهيأت له الأسباب، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يسهل
الصعاب لنشره لاستفادة القراء خصوصا محبو كتاباتي من طلابي وأصدقائي وصديقاتي. كما
نشرتُ مقالاتٍ مهمةً في مجالات مختلفة في منصات إلكترونية، من هذه المقالات:
-
البنائية بوصفها مقاربة تعليمية تعلمية لجانيت جيسن (مقال تربوي مترجم) نشرته بمنصة اسمها
"بالعربية"؛
-
ما سبب نفور المتعلمين من المدرسة؟ لدانيال ولينغام (مقال مترجم) نشرته بالمنصة نفسِها؛
-
المقاهي والثقافة (مقال فكري) نشرته بالمنصة نفسِها؛
-
علم المناعة والخوف من الجراثيم (مقال طبي من كتاب قيد الترجمة) منشور بالمنصة نفسِها؛
-
منهجا بقراط وأسكليبياديس في الطب (مقال طبي من الكتاب نفسِه) نشر بالمنصة ذاتِها. وبقراط
هذا هو أبو الطب، وهو إغريقي. وقد قيل: "كان الطب عدما، فأوجده بقراط، وكان
ميتا فأحياه جالينوس، وكان متفرقا فجمعه الرازي، وكان ناقصا فأتمه ابن
سينا". أما أسكليبياديس فهو من
الأطباء الإغريق الأوائل الذين شجعوا العلاج بالنباتات الطبية، والعلاج بالضوء،
والتدليك، والتمارين الرياضية.
وأفكر في تأليف أعمال أخرى، أتحفظ عن ذكر عناوينها في
الوقت الراهن، وذلك في مجالات أخرى كالرواية، والفكر. وأختم بالثناء العطر على
أستاذك سيدي عبد الله الكديوي، وليس على متعلميه عيبٌ إذا رأوا فيه المثل
الأعلى علما وخلقا. وأقول من دون مجاملة ولا إطراء إن الله تبارك وتعالى سخر الرجلَ للمنطقة ليخدم أهلها ويعلم النشء، وهو رجل سليم علما، خلقا، وذوقا، وقد استوفى
مواصفات الأستاذ الشخصية والمهنية، وأرجو أن تستفيدوا منه أيما استفادة، لأنه منبعٌ عذبٌ إذا ما تصدى الصدى.
والسلام.
ذ. عبد السلام ابو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا بك في مدونة "اليراع الإبريزي" للتدقيق اللغوي، والتحرير، والتمحيص اللغوي، وتأليف القصص، والترجمة. كيف يمكننا مساعدتك؟