قراء في كتاب "إلى ولدي" لأحمد أمين (ت. 1954 م).[1]
تقديم
يتجسد الحب
الخالص في علاقات عدة، منها الصلة الوثيقة بين الآباء والأبناء، لأن الأب أي أب
يحرص كل الحرص على أن يكون أبناؤه أحسن أناس يراهم أمام عينيه. وقد جسَّد لنا
كتابٌ كثيرون هذه العلاقة الوثيقة في مصنفات عدة، منها ما عكس توجيهات عامة في
التربية، ومنها ما صور نصائحَ وعظاتٍ ليستفيد الخلف من السلف، ومنها ما كان مرآةً
عبرت عن تجارب صادقة، ونصائح جوهرية على شكل رسائلَ كتبت في عصر كتابها وأثرت في
الجيل الموجهة له، كما أثرت في أجيال أخرى بعده، وهي نصوص لم تكن رسائلَ فحسب،
إنما كانت عرضا مفصلا لأزمات الجيل الجديد، وأزمات المجتمع العربي ومشكلاته أيضا.
هي رسائل عكست مقارنة بين ما في الغرب من تحرر وتمرد وبين ما في الشرق من تحفظ
وتزمت.
وخير نموذج لهذه
النصوص رسائلُ ألفها المفكر المصري الدكتور أحمد أمين (1886 – 1954م) رحمه الله.
تلك الرسائل المجموعة في كتاب سماه "إلى ولدي"، وهو كتابٌ لم
يصور أسلوب النصح والإرشاد في أوامر جافةٍ صارمة، لكنه بث لابنه المبعوث لإنجلترا
لتلقي علم الهندسة آراءه في حنان الوالد ورغبته في أن يكون ابنه خيرا منه، متوخيا
استفادته واستفادة كل قارئ من أبناء الأمة كافةً. فما سياق تأليف هذه الرسائل؟ وما
المستفاد منها؟
محتوى الكتاب
"إلى
ولدي" كتاب من مؤلفات الدكتور أحمد أمين. وهو كتاب صنف في أدب الترسل، صغير
الحجم، ولكنه كبير الفائدة، ويقع في اثنتي عشرة صفحة (112 صفحة) من الحجم الصغير. ويضم
ستة محاورَ بعد مقدمة كاتبه، وهي:
-
رسالة إلى ولدي؛
-
رسالة إلى أبي؛
-
رسالة إلى ولدي؛
-
فلنرحم العامل المسكين؛
-
رسالة إلى ابنتي؛
-
رسالة إلى ولدي.
مقدمة المؤلِّف
صورت مقدمة
المؤلف السياق العام لتأليفه، ويتمثل في تقديم الكاتب اثنتي عشرة مقالة موسومة بـ
"رسالة إلى ولدي" لمجلة "الهلال" أواخر عام 1949م، تُنشر عام
1950، وهذه الرسائل مرآة عكست نصائحَ الرجل ونتائج خبراته في الحياة، وقد أهداها
لولده. ومن أجمل مصادفات تأليف ذلك العمل أن للكاتب هذا الابن وقد سافر إلى
إنجلترا ليتابع الدراسة في شعبة الهندسة، فكان محفزا كبيرا للكاتب، فكان يحرر
النصائح مستحضرا ابنه في ذهنه، ولذلك ظفر برهان عملين.
المحور الأول: رسالة إلى ولدي (ص.
ص. 5 – 63)
حرر فيه (أي
المحور) تسعَ رسائل وظيفية، عبر فيها بمحبة وصدق. ولا غروَ أنها صورت تجاربَ غنيةً
في حياته: أفراحها، وأحزانها. ونعرض هذه الرسائل التسع كالآتي:
الرسالة الأولى
جسدت هذه الرسالة
نمط التعليم بين جيل الأب (الكاتب) وبين جيل الولد (المتلقي)، وقد اتسم الأول
بالصرامة، والشدة، والغلظة، ... في حين طغت الليونة على الثاني. وقد استهل الكاتب
هذه الرسالة بفروق عدة بينه وبين ابنه في الحياة في جوانب شتى: ثقافيا، ودينيا،
واجتماعيا... وعلى الرُّغم من تلك الفروق إلا أن ثمة وجوهَ شبه عميقة بين الطرفين؛
لأن التبدل بين الناس من الأمور التي تصيبهم في العرَض دون الجوهر. كما تعكس
الرسالة بعضا من تجارب الكاتب التي رأى أنها مفيدة جدا لابنه مهما اختلفت البيئات،
والمدارس، والثقافة.
وأول هذه التجارب
التزام الحق، وتحري العدل وعمله مهما تكن النتيجة، لأن ذلك يكسب الإنسان من
المزايا الشيء الكثير. وثانيها أن للناس غلطا مُفاده أن المال هو كل شيء في
الحياة، وما المال من منظور الكاتب إلا وسيلة من وسائل عدة تحقق السعادة، وأهم
نواميس التعامل مع المال أن يطلب باعتدال، وينفق باعتدال. ومن سبل تعاسة بعض الناس
أنهم عبيد للمال، وقد اتخذوه وسيلة لا غاية، فوقعوا في متاعبَ شتى. وأسعد الناس
مَن وضع المال في موضعه اللائق به، فطلب المال مع الشرف، والعزة، والإباء.
وثالث هذه
التجارب عنصر الدين، وهو أهم أسباب السعادة في الحياة، لأن الحياة السعيدة من
منظور الكاتب كل حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه، ويُعتمد عليه، ومنه
تستمد المعرفة، وإليه يطلب التوفيق. ورأى الكاتب أن الدين الصحيح لا يناقض العلم
الصحيح، وأن الإنسانية في حاجة إلى الدين والعلم على السواء: الدين لحياة القلب،
والعلم لحياة العقل.
الرسالة الثانية
هذه الرسالة مرآة
عكست نصحا جوهريا، فيه (أي النصح) يظهر خوف الأب على ابنه من عيوب الحضارة الغربية
ومزالقها. وقد حدد له من البعثات الطلابية أصنافا ثلاثة: صنف انغمس في اللهو
والتمتع متناسيا هدف بعثته. وصنف ثان نقل حجرته وكتبه من مصر إلى الغرب وعاد بعلم
غزير لكنه منغلق. وصنف ثالث أحب الأب أن يسير الابن على نهجه وهو صنف أدرك الغاية
من بعثته، وهي دراسة البلدان الغربية دراسة عميقة، وكشف سر عظمة تلك الأمم، وكشف
مواطن قوتها ومواطن ضعفها، والفروق بينها وبين البلدان العربية، وما يحسن أن يقتبس
للبلدان العربية وما لا يحسن اقتباسه. وكلها دروس يتعلمونها (طلاب الصنف الثالث
المرغوب فيه) في الجامعة، والحياة العائلية، والحفلات، والرحلات، وفي كل مكان
ومرفق تقع عليه أعينهم المتبصرة، وقلوبهم الواعية.
سلطت الرسالة
الضوءَ كذلك على هذه الأصناف بعد عودتهم إلى بلدانهم، وفيها توجيه الابن بأن يكون
من الصنف المحمود الذي عاد واجتهد لتحقيق الإصلاح ولو في بيئته الخاصة: الطلاب،
والأساتذة، والرفاق، والأسرة، وغيرهم... كما تحمل الرسالة تحذير الابن من اليأس
بعد العودة إلى مصرَ؛ إذ لا خير في كثرة العلم مع اليأس والقنوط. والغاية من
الانبعاث إنما هي تكوين قادة يسهمون في إصلاح الأمة، ويتزعمون نهضتها، وإذا ما
استولى عليهم اليأس عابوا أوطانهم وقبحوها، وأشادوا بالغرب وحضارته أيما إشادة،
ومن ثم صاروا عبئا على الوطن، وأعداءً له لا قادة.
نصح الأب ابنه
نصحا مفعما بالحب حتى يكون رجلا قويَّ الإرادة، عظيمَ الشخصية، رجلا يحول التيار
ولا يجرفه التيار، محاربا الرذيلة، ناصرا الفضيلة ليدرك غاياته وآماله، وأن يكون
من القلة القليلة الناجحة النافعة لا من الفئة الكثيرة الفاشلة. وختم الكاتب
رسالته بعظة مهمة وهي أن يكون الابتعاث للعلم والمعرفة، وأن تكون العودة للإصلاح
والنفع.
الرسالة الثالثة
عكست منظور
الكاتب للذوق وطرائق تربيته سيما وأنه يكتب للابن رسالة في فصل الربيع؛ فصلِ
الجمال، والزهور والزنابق. والذوق كما يرى الكاتب أحق بالعناية وأجدر بالرعاية،
ولكن الجامعات والمدارس بالأقطار العربية بما فيها مصر قصرت في ذلك أيما تقصير،
ولذلك نصح الأب ابنه بأن يتولى تربية الذوق بنفسه، وأن يوجه إليه همته؛ فلا حياة
من دون ذوق سليم، ولا دنيا من دون جمال.
رأى الكاتب أن
للذوق تأثيرا مهما في ترقية الأفراد والجماعات أكثر من تأثير العقل. ولهذا الذوق
مراحل ومحطات ودرجات، أدناها إدراك الجمال الحسي، ومن أحسن تربيته ارتقى به إلى
إدراك جمال المعاني حتى يصل به إلى مستوى المصلحين، وكل إصلاح أسس على العقل وحده
لا يجدي، إنما يجدي الإصلاح المؤسس على العقل والذوق على السواء. من أجل هذا، نصح
أحمد أمين ولده لينظم ذوقه. وإن هو فعل، شعر بسعادة لا يتذوقها ذوو الشهوات ولا
الأثرياء، بل ولا الفلاسفة والعلماء.
وقد أكد الكاتبُ
أن الظواهر الفظيعة المتفشية في المجتمع مردها إلى فقدان الذوق الرفيع لا العقل
النبيه. وهذه الظواهر عديدة منها: اتساخ الشوارع، وإهمال المشفيات، وبؤس الفلاحين،
وجفاء المعاملات بين الناس، والحقد، والعداوة، والخصومة بين رجال الأحزاب
السياسية، واعتناء المسؤولين بالمناصب أكثر من المصلحة العامة، ...إلخ.
يؤكد الكاتب في
رسالته هذه على أن تربية الذوق ليست بالأمر الهين، لكنها تربية تحتاج مجهودا
جبارا، وإرادة قوية لأن في محيط الإنسان مفاسدَ عدة تفسد الذوق، وتتلف المشاعر
السامية.
وتربية الذوق من
دون تأثير فيها أمر عسير جدا، لا ينال إلا بمجهود جبار وعزيمة وإرادة قويتين.
وللذوق كما يرى أمين مزايا ونعوتٌ مهمة، منها شيوع السكينة والطمأنينة، ونعومة
المعاملة، وجمال السلوك. وإذا انعدم الذوقُ شاعت المعاملة الخشنة، وساء السلوك،
وكثر الانفعال والفوضى، كما يكثر هيجان الأعصاب واضطرابها، وارتباكها. ويرى الكاتب
وهو يوجه نصحه لابنه في حثه على تربية الذوق أن الناس يستمالون بالذوق الرفيع
لأنهم يخضعون له أكثر من خضوعهم للعقل والمنطق. وبناءً عليه، فالذوق وسيلة
لإصلاحهم، واستقامة أحوالهم. ويختم أمين هذه الرسالة بنصيحة هي أغلى من كل
توجيهاته، وهي تكوين الذوق، وتنميته، وترقيته لأن ذلك سبيل يقود إلى السعادة، وسمو
الأخلاق، ونبل العواطف، والنجاح في الحياة على قدر كفاية المرء.
الرسالة الرابعة
شكلت الرسالة
الرابعة من كتاب "إلى ولدي" مرآة تعكس قلق الكاتب أحمد أمين على ولده،
ومرد هذا القلق أن الابن في وسط تيارات تتنازعه، وفي وسط أمواج تتقاذفه، لذلك خشي
عليه الأب أن تنال منه فتغرقه. ومن تلك التيارات: التيارات السياسية: القومية
والحزبية. وكلها مدعاة إلى بعض الشغب والإضراب من غير منفعة قومية واضحة أو نتيجة
مفيدة بينة. ويرتضي الكاتب لابنه الاشتراك في السياسة القومية والأعمال التي تنجز
لنيل الأمة استقلالها وضمان تقدمها، شريطة التخطيط والقيادة لا الفوضى والعبث. كما
يرتضي الكاتب لابنه أن يشارك في السياسة الحزبية رأيا لا عملا، من دون إضراب لما
في ذلك من تعطيل للدروس من دون مسوغ كاف. وفي هذا المجال حذر الأب ابنه من عدم ربط
الانتماء لأي حزب بشخصه الرئيس لأن ذلك أشبه بنظرة الطفولة: تعرف الأشخاص لا
المعاني، وتعرف الأبيض لا البياض، كما تعرف الأب لا الأبوة. لأن الرجل الناضج
يُقوِّم المعاني والمبادئ، ويحاسب الزعماء على سيرهم أو انحرافهم عن هذه المعاني
وهذه المبادئ، وُجد لدى الأمم الغربية فتقدمت، وانعدم عند الأمم الشرقية فتخلفت.
يحذر الكاتب ابنه كذلك عن الفهم العَرَضي (السطحي) للسياسة؛ لأن السياسة علمٌ كسائر العلوم، بل إنها أصعبها؛ فلا نبيح ممارستها إلا لمن درسها، لأن علم السياسة يحتاج الخوض والإلمام بعلوم أخرى، ولذلك أباح لولده أن يشتغل بالسياسة على سبيل التجربة والمران لا الاشتراك الفعلي، لأن الاشتراك الفعلي من دون دراسة هذا العلم سبيل مباشر للعبث والتخبط لا القيادة. لذلك نصح الأب ابنه ليكون طالبا في الجامعة أولا، ومتمرنا على السياسة ثانيا. أما عكس ذلك فمناف لطبيعة الأمور، لأنه سيجعل الحياة العلمية هامشا، وفي ذلك خطأ شنيع وغلط كبير في مسار الابن العلمي، وفي حياته بوجه عام.
في الرسالة الرابعة كذلك، نقف بتحذير أمين ابنه من الإضرابات غير الوظيفية التي تشكل عبئا على الأمة؛ حيث تتم الإضرابات من لدن الطلاب لأتفه سبب وأضعف غاية. وهذه الإضرابات غير الوظيفية تقود إلى خسارة الأمة، وتفكك الجامعات، وانحلال رباطها، وتدهور العلم بها.
الرسالة الخامسة
هي مرآة عكست
بوضوح فروقا جوهرية بين زمن جيل الكاتب وزمن جيل ابنه. كما أنها رسالة تزخر بحكم
لأنها نابعة من خبرات الكاتب واحتكاكه بخطوب الزمن. ومن هذه الحكم العلاقةُ
الوطيدةُ بين الحق والواجب. فقد رأى الكاتب أن جيل ابنه فهم الحق أكثر من فهممه
الواجب، وطالب بحقوقه أكثر مما طالب نفسَه بواجباته. ويرى أحمد أمين في هذه القضية
الفكرية أن الأمة لا تستقيم إلا بتضافر الحق والواجب من دون طغيان أحدهما على
الآخر. وكل ما صار ظاهرة في الأمة من فساد، وارتباك، وفوضى، وتدهور، ... نشأ من
عدم الشعور بالواجب.
تعكس الرسالة
كذلك طبيعة العلم في جيل الكاتب، وهو زمن تقدم فيه العلم بشكل كبير، ورأى الكاتب
أن العلم لا يفيد في السعادة والرقي إلا إذا صحبه الشعور بالواجب، وهو (يعني
العلم) كالمصباح؛ قد تكشف به طريق الهداية، وقد تكشف به طريق الضلال. ويعرج الكاتب
في الرسالة على فواجع عرفها العصر الحديث، وهي نشوب الحرب؛ تلك المعضلة التي تزلزل
الأخلاق وتغري النفوس الضعيفة بالشره والجشع، وتقود الأمم إلى فساد الخلق، وخراب
الذمم سيما الأمم الضعيفة. ولذلك يوجه النصيحة للابن حتى يكون من المصلحين في
الأمة بعد كل أزمة حتى تنتشل في مواقف صعبة. وهذا الأمر يتطلب التسلح بمجهود جبار
يعلي مستوى المصلحين. كما ينصحه بالاحتفاظ بالخلق الطيب في زمن كله مغريات بالشر.
فضلا عن نصحه إياه بالحرص على أداء الواجب مهما كانت الظروف والملابسات، وباجتناب
الخداع، والنفاقِ، والكذبِ، والرياء، ... لأن العيش مع الفقر والعز خير من الغنى
مع الذل، وإن هو (الابن) فعل ذلك كان منارة تضيء للسائرين في لجج الظلام.
عكست الصورة كذلك
تنبيه الكاتب الولد من طلاب كانوا صرعى الشهوات، وهم أشكال وألوان عدة، منهم صرعى
الجاه، والمال، والمجد. وفي السياق عينِه، يلفت الكاتب نظر ابنه حتى لا يغرنه كل
مَن علا صيتُه من طريق التهريج، أو كل من تخطى زملاءَه بالتزلف، ولا مَن كسب المال
عن طريق يد المد وغيرها من المظاهر الكاذبة، وفي ذلك غاية مهمة، وهي أن يكون الولد
شخصا ذا مبدإ هو الشعور بالواجب، والاعتدالُ في اللذائذ، وطهارة النفس، والحرص على
الشرف، والسعي وراء النبل والمروءة مهما كانت النتيجة.
الرسالة السادسة
رسالة هي الأخرى
صورت فروقا جوهرية بين جيل الابن وجيل أبيه الكاتب؛ الأول حيرة واضطراب، والثاني
اطمئنان، وسكينة، واستقرار. فجاءت الرسالة لتصور سر هذا الاضطراب الذي اعترى الجيل
الحديث. هذا السر هو الخضوع للمدنية الحديثة كل الخضوع، وهو عامل طوح بمبادئ
الأولين، وعقائدهم، وعاداتهم، وتقاليدهم. ولم ينشَأ مكانها ما يسد مسدها، فحصل
بذلك فراغ لم يعبأ، ومبادئ زالت ولم تعوض، وعقائد تهدمت ولم يبنَ مكانُها. والطبيعة
تكره الفراغ، كما تكره السير على غير هدى، والهدم من غير بناء. ولذلك كانت الحيرة،
والقلق، والاضطراب. وثمة عامل آخر هو العيش للدنيا وحدها من غير نظر إلى ثواب ولا
عقاب.
أما راحة جيل
الكاتب فمردها الوازع الديني القوي، فالأنس بالدين طبيعة النفس وراحة الروح. وإذا
كانت للإنسان خمس حواس فإن الدين من منظور الكاتب حاسة سادسة، ولذلك نصح الكاتب
الابن بالإيمان القوي ولو ألحد الناس كلُّهم، كما يوصيه بتوثيق الصلة بينه وبين
خالقه ولو قطعها الناس كافةً، وأن يجتنب التهريج، والنفاق، والتملق لن السير على
هذا النهج موافق للطبع، والتمرد عليه يقود إلى انتقام الطبيعة من مخالفة نواميسها،
وما السأم، والملل، والحيرة، والقلق الذي اعترى الجيل الحديث إلا مظهرا من مظاهر
هذا الانتقام.
الرسالة السابعة
رسالة تقارون هي
الأخرى طبيعة الجيلين: جيل المرسِل (الأب) وجيل المرسَل إليه (الابن): الأول متحفظ
حتى النخاع، والثاني منفتح حداثي حتى النخاع. لذلك شهد الأولُ غلوا في الجِد، وفي
المقابل عاش الثاني غلوا في الهزل. وعيش الهزل هذا أفقد للجيل الحديث بعض الصواب،
وكثر منهم ضحايا الشهوات، وصرعى اللذات خصوصا من محبي الملاهي المقتبسة من أوربا
وأمريكا، والذين جهلوا أن في الغرب جِدا أكبر من الهزل، لكن لم يجد الجِد طريقه
ليعرض عليهم كما يعرض الهزل. وأمثال هؤلاء كثيرون، تصورا الحضارة لعبا ولهوا، لا
جِد فيها، وحريةَ لا مسؤولية معها!
تصور الرسالة
كذلك سر سعادة الإنسان، وهو خدمة مبدإ نسعى لتحقيقه، أو فكرة إنسانية نجاهد في
إعلانها واعتناقها، او إصلاح لداء اجتماعي نبذل جهدنا للقضاء عليه. تلك هي السعادة
الحقيقية ولو مع الفقر، وهي لذة لا يصل درجتَها إلا من رقي حسه وسمَتْ نفسُه.
الرسالة الثامنة
كاتبَ أمين ابنه
ليخبره ببعض سمات المدنية الغربية؛ تلك السمات التي تكشف فلسفتها، ويقارن هذه
المدنية بالمدنية الشرقية. الأولى (الغربية) تتسم بالنظام، وبحث المسائل بحثا
منطقيا منظما، والعناية بالحقائق أكثر من العناية بالقيمة، ويغيب ذلك في المدنية
الشرقية. كما تعكس الرسالة تشبيها في محله، وهو تمثيل العلم ببوتقة الصائغ، يصب
فيها كل العناصر: شرق/ غرب/ قديم/ جديد/ ... وتستغل هذه العناصر كافةً لحصول
خيرها، الشيء الذي يقتضي أن يكون الإنسان مرنا واسع الصدر، لا يزدري ما في الشرق
لكونه شرقيا، ولا أن يمجد ما في الغرب لكونه غربيا، إنما يمجد الحق حيث كان، ماسكا
العصا من الوسط،[2]
لا يأبه لجديد لجِدته، ولا نافرا من القديم لقدمه. وفي السياق عينِه، يقدم أمين
لولده نصائحَ لا تقل أهمية عن النصائح السابقة، ورأى أنها نبراسٌ ينير به السبيل،
ويواجه به الزمن، منها سعة الدراسة، والوقوف على حقائق الشرق والغرب على السواء،
وانتفاعه بما في كل منهما من مزايا ونعوت. وأقفل الكاتب هذه الرسالة بعرض مقياس
المدنية الحقة، وهو إسعاد الناس، لأن المدنية السوية تقاس بإسعاد الناس لا بكثرة
الاختراعات، ولا بكثرة التجارب. وكلها نصائح جوهرية وليدة احتكاك الكاتب بالزمن
وتجاربه، ولم يلزم ابنه بآرائه، ولكنه بثه إياها رغبة في نفعه.
الرسالة التاسعة
هي آخر ما ورد في
محور الرسائل الأولى للكاتب ضمن هذا الكتاب، وقد ضمها تجارب أخرى حية، منها نازلة طالب
عربي آخر كان بدوره يتابع الدراسة بلندن، متخصصا في الهندسة نفسِها، وقد دار الحديث
ذات يوم حول عمر الخيام بين الطلاب الغربيين، وكان هذا الطالب ضمنهم، وسمع الطلاب
الإنجليز يبدون آراءهم في شعره وفلسفته في الحياة، وجمال رباعياته، والروح التي
تبثها في النفوس، ... ولكن الطالب العربي لم ينبس بكلمة لأنه لا يعرف شيئا عن عمر
الخيام، فلم يشارك الطلاب حديثهم، فخجل من نفسه ومن ثقافته. ولذلك نصح أمين ابنه
ألا يسقط في نوازل مثلها، وألا يجهل ما يجري في العالم من شؤون اجتماعية وأخرى
ثقافية، وأن يلم بمجالات معرفية مختلفة وألا يقتصر في دراسته على تخصصه.
وتصور الرسالة كذلك
أهمية مخالطة محبي الاطلاع والقراءة، ومصادقتهم، والقراءة في مجالات معرفية
مختلفة، لأن الحقول المعرفية نظام ونسق، يكمل بعضها بعضا، وقد تأتي أكبر فكرة في
الهندسة من كتاب في الأدب، وفكرةٍ في الطب من الفلسفة، وقس على ذلك... ولذلك ما
أحوج الإنسان إلى هواية في فرع من فروع الثقافة العامة! وما أحوجه إلى معاشرة ذوي
ثقافة قوية وتفكير ناضج! وما أحوجه إلى اجتناب محبلي قتل الوقت! فكم يجني الإنسان
على نفسه بمعاداة أحق شيء بالصداقة.
المحور الثاني: رسالة إلى أبي (ص.
ص. 64 – 70)
الرسالة العاشرة
هذه الرسالة يمكن
عدها ردودا حررتها أنامل الابن للرد على رسائل والده (الرسائل التسع المذكورة)،
وفيها شكر الوالد أباه على عنايته به، واهتمامه بأمره، ملتمسا منه الاستماع إليه
كما استمع إليه بدوره.
يرى الابن الطالب
في هذه الرسالة أن أباه يطالبه بأكثر مما يطيقه الشباب، ويرى الابن أن شباب مصرَ
في حاجة إلى أن يُترك ليجرب الحياةَ بنفسه، يصيب ويخطئ، لأن ذلك سيقود إلى تقوية
شخصيتهم، ويزيدهم ثقة بأنفسهم، ويجعلهم جديرين بتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهم
على غرار الشباب في أمريكا وأوروبا، حيث الاعتماد على النفس في البحث والدراسة،
وفي مواجهة الحياة العملية، ومن ثم اكتساب تجارب ومعلومات، ومهارات، ...
ويرى الابن كذلك
أن الحديث في الأخطاء وتوجيه النصح لا يمكن أن يقود إلى تغيير مجد، او تحسين ظاهر،
وقد يؤدي إلى العكس؛ لأن من طبع النفس كره النصح والتوجيه، إنما المجدي أن يعلم
الآباء كيف تكونت أخطاء أبنائهم، وما الظروف التي أنتجت تلك الأخطاء حتى يتأتى لهم
إزاحتها عن طريق الأبناء، ومن ثم توفير ظروف أخرى سوية. كما يؤكد الابن أن الآباء
هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن التربية، لأنهم أكثر الناس قدرة على تكوين أبناء
صالحين، وأكثر الناس قدرة على توفير الجو الصالح لتكوين أسرة سعيدة صالحة. وإن هو
عجزوا عن ذلك فالذنب ليس ذنب الأبناء، لذلك ما من داعٍ لتأنيبهم ونقدهم نقدا
جارحا، وما من داع للشكوى، إنما الذنب للآباء الذين فشلوا في تهيئة الظروف
الملائمة لتكوين شباب صالح.
يخبر الطالب أباه
في هذه الرسالة كذلك عما لاحظه من ثقافة الشعب الإنجليزي وطرائق تعليم الأبناء
الاستقلال: في الدراسة، والعمل، ... وفي كل أمور الحياة. ولذلك يلتمس الابن من
أبيه ومن كهول أمثاله أن يدعوا الشباب يعيش، ويخط لنفسه الطريق مهما كانت النتيجة
حتى يستطيع أن يعيش بوصفه إنسانا يصيب ويخطئ. وفي الختام يلتمس الابن من أبيه ألا
يفهم من الخطاب أنه كاره لنصحه وتوجيهه، او ضجره من توجيهاته، ورأى أن خير نصح
يُوجَّه له ما كان في تغيير الظروف وتهيئة الجو الملائم، راجيا أن يجد في خطابات
والده القادمة الخِطة الناجحة لذلك.
المحور الثالث: رسالة إلى ولدي (ص. ص. 71 – 74)
الرسالة الحادية عشرة
هذه الرسالة
عبارة عن ردود الأب عن رسالة ابنه، وفيها عبر الأب عن فرحه وإعجابه بدقة ابنه في
النظام، واستقلاله بنفسه في تصرفه، واستفادته من كل ما يرى. كما روى الأب في
الرسالة هذه نوازل لابنه كي ينجوَ من مزالق خطرة بما فيها الخمر، والقمار، واللهو،
وقتل الوقت. وينصحه بأن يعيش عيشة اقتصادية لا إسراف فيها ولا تقتير؛ معيشة منظمة
بمقدار ما يكسب، من دون حرمان ولا بهرجة. وفي ختام الرسالة، يؤكد الكاتب أن
الأخلاق ليست صدقا وعدلا وشجاعة فحسب، ولكن الأهم في الخلاق تنظيم الحياة أيضا،
وسير المرء في الحياة بنظام وإتقان.
الرسالة الثانية عشرة: فلنرحمِ العاملَ المسكين
هذه الرسالة
اختار لها الكتاب عنوانا هو "فلترحم العامل المسكين"، وهي رسالة عبارة
عن رد آخر من لدن الكاتب على رسالة ولده، حيث يخبر الولد أباه بخير محزن للغاية وهو
حتف لقيه عامل كهربائي في ورشة يعمل بها بسبب صعق كهربائي. وهو خبر أثر في الأب
أيما تأثير، لذلك جاء الرد عن الرسالة بهذا العنوان المصَدَّر بلام الأمر الجازمة
التي تقتضي الوجوب، ناصحا ابنه بأن يستفيد من كل موقف، ويأخذ درسا نافعا من كل حادث،
عبرة له وللناس حوله. وقد عبر الكاتب عن فرحه من مشاركة ابنه في تقديم التعازي
لأسرة الفقيد، وتبرعاتهم المالية لها، كما أسعدته التدابير المتخذة حتى لا يكرر
مثل هذا الحادث بالورش، ولكن الدرس الأهم من منظور الكاتب هو أن كل ما نستخدمه من
أجهزة وعُدد استغرقت من الصناع والعمال ساعات عدة، واستنزفت من صحتهم الشيء الكثير،
ولذلك لا بد من تذكر ذلك حتى نحسن الاستخدام. وفي هذا الصدد ينصح الأب ابنه من
جديد بان يمتلئ قلبُه رحمة على العمال والصناع الذين يتعرضون لأخطار عدة، وعلى
البؤساء المساكين الذين لا يجدون قوت يومهم، وعلى المرضى الضعفاء الذين خانتهم
الصحة، وعلى الجنود الذين يضحون بحياتهم في ميادين القتال فداءً لأوطانهم، ... وكل
إنسان في الوجود فقيرا كان أو غنيا يستحق الرحمةَ إذا اتسع أفق المرء وبَعُد نظره.
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الثالثة
عشرة عبارة عن رد الأب حين استشاره الابن بعد عزمه ترك لندن لما حصل الدكتوراه
ليسافر إلى سويسرا للتمرين العملي. وقد رأى الكاتب أن الوسط الإنجليزي خير من
الوسط السويسري، وذلك لسببين: الأول: أن الوسط الإنجليزي أجد، وأقل لهوا وعبثا.
والثاني أن الابن قد يجد زمنا متسعا في سويسرا ومن ثم وجود عوامل تقوده إلى اللهو
والعبث في الوسط السويسري، ولكن الأب الحكيم يوجه ابنه خير توجيه، فيمنح له حرية
الاختيار، شريطة ضبط النفس، واعتدال الميل إلى اللذائذ، والخضوع لحكم العقل.
جاءت الرسالة
كذلك مجسدة وجهة نظر الكاتب في مسألة زواج ابنه، حيث يستشيره الابن حول الزواج من
فتاة إنجليزية من دونه، وهنا يرى الأب أنه لا بد من التمييز بين الطبيعي والمصطنع،
والسليقي والمفتعل حتى لا يصير الابن ضحية خداع، ويظن أنه حب حقيقي. وعموما، يقر
أمين أن سلطان الحب فوق كل سلطان، لذلك منح له حرية الاختيار في هذا الشأن بدوره.
وفي نهاية الرسالة يطلب الكاتب من ابنه إخباره بما استقر عليه رأيه في رده اللاحق.
ويقفل الكاتب
رسالته بإخبار ابنه بزيارة فنان مصري له بمصر نفسها، وهذا الفنان اتخذ من بيته
فضاءً للفن، ويتقن ما يرسم في بطء، ولا يسأل عن الزمن، ولكنه يسأل عن الإتقان،
وبذلك نال إعجاب الإنجليز كثيرا، ونجح في إنشاء مدرسة على مذهبه، التحق بها سبعة
عشر فنانا مصريا، ومن شروطه عليهم عدم النظر في الناحية المادية البتة، مما حرم
عليهم بيع اللوحات والمطالبة بترقيات وعلاوات. وقد فرح أمين بأن يكون في مصرَ
ثمانية عشر راهبا فنيا، وتمنى أن يكون ابنه عند عودته راهبا علميا.
الرسالة الرابعة عشرة
تضم نصحا أخر،
وتوجيها مهما للابن حتى يتكيف مع ظروف الأمة الجديدة، ونصحه بقراءة كتاب
"النظم الاجتماعية في إنجلترا" قراءة متبصرة حتى يعرف عادات الإنجليز،
ويجتهد لاختيار الأحسن منها، ويرى الكاتب أن الإنسان هو العادة، والعادة تكوِّن
المخ تكوينا خاصا، وللعادة خصائصُ عدة، منها سهولة العمل المعتاد، وتوفير الزمن
والانتباه، ... إلخ. وفي هذه الرسالة يعرض الكاتب قواعدَ رأى أنها جوهرية في تغيير
بعض العادات السيئة التي ورثها الابن من الوسط المصري، وهي قواعد وضعها الأستاذان
"بين" و"جيمس". أهمها:
·
العزيمة القوية؛
·
عدم السماح للنفس بمخالفة العادة
الجديدة إلا بعد أن تتمكن جذورها في الحياة؛
·
انتهاز أول فرصة لتنفيذ ما تم
العزم عليه؛
·
المحافظة على قوات المقاومة.
وختم الكاتب
الرسالة بحاشية حول مرض الأم (زوجته) مرضا شديدا ألزمها الفراش، ولكن رفضت استدعاء
الطبيب لحجتين: الأولى الإيمان بالقدر، والثانية أن كثيرا من الأطباء أخطأوا
فأماتوا المرض، ولكن حكمة الكاتب أترث في الزوجة واقتنعت فاستدعى الطبيبَ وقد
عالجها واستعادت عافيتها.
المحور الرابع: رسالة إلى ابنتي (ص. ص. 91 – 94)
الرسالة الخامسة عشرة
هذه الرسالة
بعثها أمين لابنته، فكما أحب الولد أحب البنت. وهي امرأة ببلاد الإنجليز، ويقارن
الكاتب طبيعة ابنته لما كانت بمصر، وطبيعتها لما سافرت إلى بلاد الإنجليز، وفي مصرَ
كانت منفعلة متوترة، تبكي لسبب تافه، وتضحك لسبب أتفه، ... ولكنها في إنجلترا
هادئة حيث كل المحيط يدعو إلى الهدوء: جو بارد، ونظام دقيق، ومعاملة حسنة، ...
ويشجع ابنتَه على أن ما تمارسه من أعمال داخل البيت وقضاء الحوائج خارجه بنفسها
أمر محمود، فيه خير عظيم، حيث يعلمها نوعا من الاستقلالية، ويبعثها على النشاط،
ويملأ فراغها ووقتها، ولو أنها ألفت ذلك بالاعتماد على الخدم لما كانت ببيتها بمصرَ.
ينصح الكاتب
ابنتَه ألا تكثر من الأولاد، لأن قلة الأولاد أعون على حسن تربيتهم، وسعة الإنفاق
عليهم. كما يوجهها حتى تدق النظر في عادات بلاد الإنجليز، لتأخذ ما تراه حسنا،
وتتنكبَ ما تراه دون ذلك. ويرى الكاتب أن لكل قوم نعوتًا وعيوبًا، ومحاسنَ ومثالبَ،
حتى لا يصيبها غرورٌ فتظن أن الإنجليز كلهم خير.
إن رقي الغرب من
منظور الكاتب وليد عاملين، جمعهما في ميمين: المرأة والمطر: فالمرأة برقيها
رقت الأمة الغربية، وعرفت كيف تربي أحسن تربية. والمطر ألطف الجو، وكسا الجبال
والأشجار والزرع، وخلق الغابات التي حرم منها الشرق. لذلك نصح أمين ابنته أن تكونَ
امرأةً إيجابيةً، تحسن التربية، وتؤثر في محيطها أحسن تأثير، وتكون مصدر خير
لزوجها وذريتها، وأن تتحمل الغربة، وتجعل منها أحسن درس، وأفيد علم. ويحذرها من
تغيير العادات الحسنة التي كسبتها. كما ينصحها بالقراءة النافعة في أوقات الفراغ،
من قصص ممتعة، وتاريخ، وحضور محاضرات جامعية أن استطاعت إليها سبيلا، فلا خير في
حياة من دون غذاء للعقول. والقراءة هي هذا الغذاء.
المحور الخامس: رسالة إلى ولدي (ص. ص. 95 – 111)
الرسالة السادسة عشرة
تضم هذه الرسالة
توجيهات أخرى للابن، منها الحرص على مَثَل أعلى ينشده، ويرمي إليه في حياته. لأن
المثل الأعلى كثير التأثير، مريح للنفس من عناء التفكير في كل لحظة. ومن دون مثل
أعلى كان الإنسان كالحيوان يعيش دوما على وتيرة واحدة لا تتحسن. ويختم أمين هذه
الرسالة بحاشية أخرى تخبر الابن بوفاة رجل جاد في حياته، وقد كان موته منبع حزن
عميق لدى الكاتب لأنه دائم السؤال عن أحواله وصحته.[3]
الرسالة السابعة عشرة
هذه الرسالة
عبارة عن رد عن رسالة ما من الرسائل التي يتوصل بها أحمد أمين من ولده، حيث رأى
الابن أن أباه يكثر عليه النصح والتوجيه، لكن الأب الكاتب يرى أنه محق في ذلك،
ومتشبث بنصحه قبِل الابن أو كره، وهو حر بالطبع في قَبول النصيحة أو رفضها. فلنا
في القرآن الكريم أكبر دليل على حاجة الناس النصح، كما لنا في السلف الصالح أمثلة
حية في النصائح. ومن منظور الكاتب فإن النصيحة تؤثر في النفوس، وفي نفسه خير دليل،
حيث تأثر كثيرا بنصائح منها وصايا الإمام علي رضي الله عنه، وأخرى وجدها في كتب
عدة قرأها، منها كتاب "سر النجاح والأخلاق" لسمايلز. غبر أن الابن يؤمن
إيمانا أعمى بأن البيئة تمثل كلَّ شيء، وهو ضرب من المغالطة من منظور أبيه، وقد عد
الكاتب البيئة شيئا من أشياء، بل إن نصيحته التي يركز عليها هي الأخرى بيئة من
البيئات، لذلك آثر أن يواصل نصحه ما دام أبا، والمرسَل إليه ابنا له، ويعطيه
الخيار في قَبول أمور ورفض أخرى. ثم يختم الكاتب هذه الرسالة بحاشيتين: الأولى حول
أحوال أحد أصدقاء ابنه، حيث جره رفقاء السوء إلى خيبة أمل، ولكن عادت أحواله إلى
الاستقامة بالنصح السوي. والثانية حول شخص يعرفه الابن قد رسب في امتحانه بسبب تورط
في أصدقائه، ولكن من المصادفات التي غيرت حياته أنه شاهد عبارة أخلاقية مؤثرة في
رواية سينمائية، فكتبها بخط بارز وعلقها في حجرة نومه يقرأها إذا دخل الغرفة
للنوم، وإذا صحا من نومه حتى استقام أمره. وفي ذلك تأثير كبير للنصيحة الفعالة!
الرسالة الثامنة عشرة
رسالة تبين مسألة
فكرية ذات أهمية كبرى، وهي مسألة الحق والواجب. فالجيل الحديث بمن فيهم ابن الكاتب
سادت عنده فكرة خاطئة، وهي شدة المطالبة بالحقوق من دون التفات إلى أداء الواجبات.
مع أن الحق والواجب وجهان لعملة واحدة، أو هما عنصران يكمل بعضهما الآخر، لا يمكن
تصور واحد في غياب الآخر. ويحث الكاتب ابنه على أداء الواجب لما في ذلك من سعادة
للفرد والمجتمع على السواء. ويربط أمين تقدم الأمة ورقيها بمقياس هو أداء أفرادها
ما عليهم من واجبات، ويجب أن يؤدى الواجب لأنه واجب لا طمعا في ربح أو هربا من
خسارة، إنما يؤدى راحة لوجداننا رغم أن أداء الوجب يكلفنا أحيانا مشقات عدة،
وينبغي أن نتحملها، كما يتطلب منا تضحيات يلزمنا تقديمها. والتضحية لا تُستحب إلا
حين يطلبها الواجب، كما أن الثواب ليس على قدر المشقة كما يظن كثير من الناس، فهذا
غلط، إنما يصح حين تتحمل المشقة لعمل لا يمكن أن ينال إلا بهذه المشقة. ولا بد من
الموازنة بين الواجب والتضحية، وكلما عظم الواجب عظمت التضحية. وفي آخر الرسالة
تنبيه للولد حتى لا يرضخ للنعيم ويخلد للراحة والكسل، فمن فعل ذلك لا يرجى منه
خير.
الرسالة التاسعة عشرة
تشكل هذه الرسالة
آخر رسالة من كتاب "إلى ولدي"، فبها أقفل الكاتب كل الرسائل المتضمنة في
كتابه هذا، وفيها يحث ولده على حب الحقيقة، ويطلبها لذاتها، ونصحه ليكون ذا شعور
علمي دقيق. كما يحثه على الصبر لأنه مفتاح العلم، ويجب ألا يمل منه، وينصحه أن يُعَود
نفسَه على النظام والدقة في العمل، وحسن الترتيب، وأن يعمل ويبحث للبحث لا للشهادة
فحسب. وقد قص عليه جانبا مهما من تجاربه في هذا الباب، وأولها بداية حياته العلمية
بترجمة كتاب "مبادئ الفلسفة" وما خاضه في فن الترجمة حتى يستوي العمل
المترجم، وجاءت نهاية الرسالة بنصائح أخرى جوهرية منها ما يتعلق بأمور محمودة يحث
الكاتب الابن على اغتنامها، ومنها ما يتعلق بأمور مذمومة ينهى الكاتب ابنه عنها.
[1] . ورقة أكاديمية نال بها الكاتب عبد السلام أبو المرتبة الثانية في أدب الترسل في مسابقة نظمها فرع أنفا لشبكة القراءة بالمغرب بمناسبة يوم الكتاب العالمي وحقوق المؤلِّف. والكتاب موضوع القراءة هو:
أحمد أمين: إلى ولدي؛ دار الجيل بيروت، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د. ت.
[2] . تعبير مجازي، أريد به
الاعتدال في الأمور: لا إفراط ولا تفريط.
[3] . الرجل الميت كان قيد حياته كثير السؤال عن أحوال الأستاذ أحمد أمين رحمة الله عليهما.