‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيرة ذاتية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سيرة ذاتية. إظهار كافة الرسائل

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م).



ليلة الفاجعة كما عشتها...

 

في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق (23:10) وأنا بمكتبي بالبيت أحرر مقالاتي وأتصفح الإنترنيت كعادتي، وكان عَشاؤنا جاهزا. وبينما أنا على هذه الحال أحسستُ بقوةٍ أزت البيت أزا، وحجوتُ مكتبي مصعدا يقلني إلى طابق علوي في عمارة شامخة. ودلني صوت الأسقف على أن الأرض اعتراها زلزالٌ عنيفٌ، وفرت الزوجة من حيث تقعد قاصدة الصغيرين، وفي لحظة وجيزة أمسكت بهم كافة ولزمنا موضع باب المكتب لا أسفل السقف، وهو سلوك يحد من خسائر الأرواح حين يتعلق الأمر بطابق واحد، وأنى لذلك أن يفيدنا ونحن في عمارة تضم ثلاثة طوابق فضلا عن الطابق تحت أرضي؟! ولكنها غريزة حب البقاء. حينها كنا نردد "باسم الله، الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"، وقد اعترانا رعبٌ لم نشعر بمثله قط. وكانت نظراتُ ابني الصغير تقول لي: ما الخطبُ؟ وكان يصوبها إلى تارة وإلى أمه تارة أخرى دون أن ينبس بأي كلمة، وهو يعلم أنه لم يقترف أي شيء، وما زاد تشويشه أنه لا يجد لسؤاله أي جواب.  

غير بعيد سمعنا عويلا وولولةً، تلاها هروب جماعي عشوائي ففكرنا بدورنا في الانصراف، ولكن باب الشقة موصدٌ، وما زاد تشويشنا أن الباب مغلقٌ بإحكام رغم فتح أقفاله. فتحته الزوجة بعنف، ولا تدري كيف فُتح، وانصرفتْ حاملة الابن الصغير، فانصرفتُ بعدها حاملا الابن البكر، وفي ذلك مجازفة أيما مجازفة.

في مدخل العمارة التي نقطنها دراجات هوائية لأبناء الجيران، وقد أسقط رج الأرض إحداها، وفي لحظة خروجي حاملا الابن وقعتْ قدمي بين الأقطاب الحديدية لعجلتها فكبحت ركضي كبحا، وسقطتُ أرضا، وحالت دراعي دون ارتطام رأس الابن بالأرض. ومن تلك القوة العنيفة اعترى ساقي وأصابع قدمي جرحٌ عميقٌ لم أشعر به حتى حشرَنا القدر الإلهي في ساحة 20 غشت بتارودانت.

من الجيران من أخرج سيارته في لحظة وجيزة وجمع أفراد أسرته كافة فغادر المكان. ومنهم من فر دون أن يحدد وجهته، وآخرون في حشود يُطمئِن بعضُها بعضًا، وفي يد كل منا هاتف يتصل بمخاطب ما من دون جدوى.

قصد الجميعُ ساحةَ 20 غشت، وفي أكتافهم بعض الأفرشة، وقليل منهم من سوى جُبَّتَه، ومنهم من خرج من دون نعال، وصلنا الوجهة المقصودة، وملامح كل منا توحي بالهلع والتوتر. وفي تلك الساحة وقعت عيناي على أناس عرفوا حقا معنى الرأفة، كما وقعت عيناي على أناس أدركوا معنى التآزر، وآخرين اكتفوا بحمل ما يرونه أغلى ما عندهم. فهذا رجل يخرج جوادين ويسوقهما بين الناس قاصدا المكان الآمن لحياته وحياة الجوادين. وهذه فتاة تحمل قفصا به عصفوران، وآخرون يشاركون الأفرشة مع مَن خرج من دون فراش، ... بعد دقائق معدودات عرف المكان اكتظاظا بانضمام أناس آخرين، كما حلت به عناصر من رجال الأمن.

أمضينا ما تبقى من تلك الليلة هناك، وقد تركنا في البيت عشاءَنا، وكان الجو باردا، وكنتُ رفقة أسرتي الصغيرة غير بعيد عن موضع قعود جيراننا. نام من نام وسهر من سهر. وفي تلك اللحظات أمعنتُ النظر في تلك الجروح التي أحدثتها في ساقي أسلاك العجلة التي أسقطتني أرضا في لحظات زلزلة المنازل. لقد كان همي كان عميقا، ولم أولِ لها أي اهتمام، ولم أبد تجاهها أي قلق. هناك تعرفنا على أسرة وافدة من إيغرم، تقول سيدة منها إنهم رغبوا في السفر لزيارة عائلة بتارودانت، وكانوا مترددين في سفرهم، أيسافرون يومه أم يؤجلون السفر، ولكن استقر لهم الرأي على السفر يوم الثامن من شتنبر ليشهدوا الخطب كما شهدهم غيرُهم. إنهم يريدون ونحن نريد، والله يريد، ولم يكن سوى ما يريد. 

سمعنا أذان الفجر، وعدنا حيث انصرفنا، ولكن السهوم لم يفارق وجوهنا. تركتُ الصغار رفقة أمهم، وانصرفت قاصدا المسجد بعد أن طمأنتهم أن المنزل سليم من التصدعات. رأيت رأس مئذنة الجامع الكبير مخربا، وجانبها قد انزاح قليلا عن المسجد، وتذكرتُ جهودَ السعديين في تشييد هذه المعلمة الدينية العريقة، وازداد توتري ودخلت المسجد.

كان صوتُ الإمام على غير عادته؛ صوت يعبر عن هول وفاجعة يعلم الله كيف قضى ليلته بدوره. ولما انفلتنا من الصلاة، تأملت دعائم المسجد الكبيرة، وهي دعائم سميكة بنيت بالجبس والحجارة على يد أمهر العمال في العهد السعدي بالمدينة. ولاحظت أن جلها سليم، وبعضها اعتراه تشوه خصوصا في القاعدة.

عدتُ إلى منزلي ونمت نوما عميقا من تعب وأرق شديدين. ثم حل الصباح ورأيت سلوكات الرودانيين وهم في طوابير بالمخابز وقد اعتراهم هيجانٌ لم أرَ مثله قط، إذ عرفتِ المدينةُ أزمةً في الخبز خلقها أناسُها، وكلما بحثت عن مخبزة وجدتُ الطابور بها أطول من سابقه، وبعد بحث مضن تمكنت من إحضار الخبز.

علمتُ أن السكان في البوادي التابعة للإقليم في حالة يرثى لها، ويعانون الويلات من كل ناحية: جوع، وتعب، وعطش، ومبيت في العراء. فكيف لمن خلق أزمة في الخبز وسط المدينة التي لم تسجل أي خسارة في الأرواح أن يبعث الخبز لمن هم في أمَس الحاجة إليه؟!

دامت أزمة الخبز قرابة ثلاثة أيام، وتمكنا من صنع الرغيف بالبيت على عادتنا، ولكن الفضول تملكني لأرى تصرف الناس أمام المخابز، وقد رأيت أناسا أحضروا أكياسا كبيرة كما لو كانوا يستعدون لزفاف أو عقيقة، وقد أعجبني سلوك عامل في مخبزة عتيقة غير بعيدة عن مقر سكني حين حدد لكل زبون خمس خبيزات مهما كان طلبه. وثمة أفران عصرية تبيع الخبزة الواحدة بثلاثة دراهم ونصف، وفيها رأيت العراك والخصام لا لشيء إلا لسوء تنظيم الدور!

أخبرني أبي بهول الكارثة التي حلت بقرى تابعة لإقليم تارودانت، تلك الكارثة التي أودت بحياة أناس، وبهائم، كما أسقطت بنايات عمرت قرونا. وثمة قرى لقي فيها ساكنوها حتفهم كافةً، وثمة قرىً لم ينجُ من الفاجعة بها سوى رجلٍ أو طفلٍ واحدٍ.

قضى جل ساكنة المدينة ثلاث ليال بعد ليلة الفاجعة، فضلا عن ليلة أخرى بعد مرور أسبوع، وفي ذلك ضربٌ من التشاؤم خصوصا لدى ضعاف الإيمان. في تلك الليالي الثلاث لم يهدأ بال للمغاربة من مختلف ربوع المملكة، فانهالت على القرى شاحنات محملة بالأغطية والمواد الغذائية، وتتوالى سيارات الإسعاف بصوت منبهاتها لنقل الجرحى إلى مشفى المختار السوسي، وما أحدثته تلك الأصوات في أسماعي فذاك حديث آخر.

آلمني جدا ما شهدته من تصرفات من قِبل بعض الناس من رمي لمخلفات الأطعمة في أرضية الساحة، وثمة مخلوقات أخرى تستغل الفرصة لسرقة حقائب النُّوم من الناس، وبينما أنا أراقب صغاري - في ليلة من تلك الليالي الثلاث- وقد ناموا نوما عميقا بعد لعب بريء ساعات طوالا، سمعت نشالا قال لزميله وهما يتجولان في الساحة: "نام الجميع".

استفحلتْ روحُ التضامن بين المغاربة كافةً، كما استفحل الجشعُ من لدن قساة الأفئدة الذين تملَّكهم الطمعُ للحصول على مواد غذائية، وأفرشة، وخيام كانت وجهتها المناطق المنكوبة، وتم تحويل مسار الشاحنات التي تقلها إلى وجهات غير معنية. ولست أدري كيف يحلو لأولئك طعم ما تم حصوله من دون استحياء ولا حشمة.

وعلى ذكر المساعدات المادية كانت بلدتي ضمن القرى التي وصلتها تلك المساعدات، ولحسن الحظ أن الخسارة شملت العمران لا الناس، وكانت ترتاد مصحة بالمدينة كل ثلاثاء وكل جمعة بحكم استفادتها من حصص الغسيل الكلوي، وقد أتتني ذات يوم بكمية قليلة من التمور تقول إنها حصلتها من بعض المساعدات التي وزعت على الناس ببلدتي، وهي تمور عادية، ولكن وقعها في نفسي كبير، وكلما وقعت عليها عيناي بالمطبخ تذكرت ما يكابده الناس في الخيام، كما تذكرت المضاضة التي يكابدها من فقد أحبته في ثوان معدودات.

بلغني أن منطقة أنزال- جماعة تيزي نتاست، نالت نصيب الأسد في الخراب، ومن ساكنتها طالبٌ من قدامى معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل -وكان من تلامذتي القدامى- وأخبرني خلال تواصلي معه أنه فقد شقيقه وأمه، كما اعترت جروح بليغة أباه أدخلته في غيبوبة أياما عدة، وقد آلمني جدا ما أصاب التلميذ من صعوبة في النطق ومن مضاضة نفسية لا يشعر بها سواه. كما أن طالبا آخر من البلدة نفسِها أصيب بسكر في ساقه عجل بنقله إلى المشفى. وكلا الطالبين استعاد عافيته الآن، وأحمد الله تبارك وتعالى على ذلك.

ما آلمني اليوم أن الفاجعة مر عليها حول كامل بالتمام والكمال، ولا تزال أسرٌ عديدة تقطن الخيام. وسبحان مدبر الأحوال، عاش الأطلس الكبير فاجعة الزلزال في الثامن شتنبر، ويمر حولٌ ليعيش الجنوب الشرقي في التاريخ نفسِه فاجعة الفيضان. نسأل الله أن يتقبل عمل كل من مد يد العون لمتضرري الفاجعتين، وأن يتغمد الشهداء كافةً بواسع رحمته، ويرزق ذويهم الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون. 

 

جزء من سيرتي الذاتية



ألفتُ أن أوظفَ ضمير المتكلم الجمع في كتاباتي تواضعا، ولكن تعلق الأمر هذه المرة بالكتابة في جنس أدبي حكائي، فاقتضى التحرير أن أستبدل ضمير المتكلم المفرد بضمير المتكلم الجمع[1] لأن طبيعة الكتابة في هذا الجنس الأدبي فرضت علي أن أكون كاتبا عارضا ومعروضا، واصفا وموصوفا في الآن نفسِه. 

وضعتني أمي حفظها الله وطهرها وضعا طبيعيا، وكان ذلك ليلة الخميس في الثالث والعشرين من ربيع الأول عامَ ستة وأربعمائة وألف (23 ربيع الأول 1406) موافق خامس دجنبــــــــر عــــام خمسة وثمانيـن وتسعمـائة وألف (05 دجنبر 1985)، وكان ذلك أواخر فصل الخريف، وبدايات فصل الشتاء. لم أولد في المشفى ولكن ولدتُ في بيتنا وسط أسرة مسلمة مغربية سوسية،[2] بسيطة ومحافظة، من عائلة كبيرة ببلدة ريفية تسمى أشبارو، من النفوذ الترابي لإقليم تارودانت. وكنت الابنَ الثالث بعد أخوين، ثم ازدادت بعدي أختان: الأولى ترزق، يسر الله أمورَها، والثانية انتقلت إلى جوار ربها من إصابتها الشديدة بالحصبة بالبلدة سنة 1997، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل لحدَها روضةً من رياض الجنة. كان الوسطُ المذكورُ قليلَ العلم، ولكنه كثيرُ الحشمة والوقار، فليس الوسط دائما مقياسَ التحضر وربح الرهان في هذه الحياة؛ فقد يأتي أكبر شر من أكبر خير، ولنا في نبي الله نوح وابنه العبرة الكبرى: كان نوح أكبرَ داعية، ولكنه أنجب ابنا كافرا جحد النعمة وكان من المغرقين.  كما قد يعاشر أكبرُ شر أكبرَ خير، ولنا في الحياة الزوجية لفرعون وزوجه الدليلُ الدامغ: كان فرعون أكبر طاغية، ولكنه عاش مع زوجة مؤمنة صالحة. أغرق الله فرعون، ولكن أسية ظفرت بنعمة الإيمان فنجاها الله من عمله وكيده وجبروته. 

ليست ببلدتي طواغيت فراعنة، ولا جبابرة، إنما أتيتُ بهذا التقابل لأبين أن البارئ يهب الحكمة لمن يشاء بصرف النظر عن بيئته، ومعاشريه، وأنصاره، وأصدقائه، وأهله، وبنيه. وهكذا آمنتُ وسأظل. بهذه البلدة قضيتُ طفولةً بسيطة كبساطتها، لم أظفر بنصيب وافر مما ينعته كثيرون اليومَ بـــ“عمدة” تنمية الجانب الحسي الحركي لدى الطفل، أعني هذه الألعاب وهذه اللوازم التي اقتُبست من النظام الغربي الذي لا وقت فيه للأم للرعاية كما لا وقت فيه للأب للتثقيف. ولكن ظفرتُ بنعمة كبرى لم يحظَ بها جلُّ أبناء أهل الحضر، هي احتكاكي بالطبيعة الاحتكاك المباشر: سهولها وجبالها، تربتها وحقولها، دوابها وسبل استخدامها: حرث، وزرع، وحصاد، ودرس، وغيرها من أشغال فلاحية رغم قلة المياه بالقرية. تلك النعمة التي نفعتني نفعا عظيما ولا تزال؛ فلم أغب عن الحقول وأنا صغير ينطق الشينَ سينا وينطق الغين عَينا. وخلال تلك المرحلة لا أشارك العائلةَ الأعمالَ بالحقول، إنما كنتُ عضوا مزعجا بها كغيري من صغار القرية: صراخٌ وعويلٌ من أتفه الأمور، فلا أنا تركتهم يعملون ولا هم أدركوا ما أرغب فيه لأكف عن الصراخ ويستأنفوا أعمالهم. 

لم أكن من الرضع الذين يمتصون هذه المنتجات التي يسميها كثيرون اليومَ الحليب وما هي بحليب، إنما استفدت من رضاعة طبيعية وأحمد الله على ذلك. وعلى الرغم من ذلك، كنتُ شَخْتَ الخِلقة (نحيفا) ولا أزال كذلك، وأفتخر بذلك لأن لي مسوغاتٍ علمية وطبية عدة سيكشفها القارئ بتتبع محطات حياتي في هذا الكتاب. وعموما قد تكون وراء تلك النحافة -العادية بالطبع- في تلك المرحلة عواملُ كثيرة، إما لكوني الابن الثالث، أو من علة أمي (حصى الكلي) التي كلفتها الشيء الكثير ولا تزال. ومهما يكن، هكذا وُلدتُ، ولا يقاس المرء بالجسد، ولكن يقاس بأصغريه: الفؤاد واللسان. وكنت في الصِّبا أصابُ بضربٍ من الإغماء غريبٍ؛ فبمجرد دفعي من لدن أحد الأخوين- ولو كان الدفع هزلًا- أسقُطُ أرضا فاقدًا الوعيَ، أما إذا نُزعَ مني شيءٌ مهمٌّ بقسوة فذاك حديث آخر؛ فقد يغمى علي ساعات، بل يصل الأمر إلى وجْدٍ وهَمٍّ واضطرابٍ حتى يظن الأب والأم أني فارقت الحياةَ، ومن لا يشعر بذلك إذا ما أصاب ذريتَه مكروه؟

وفي مركز جماعتنا تافنكَولت رجلٌ يُدعى سي إبراهيم، وهو معالج بالطرائق التقليدية وخصوصا جبر الكسور وعلل أخرى مثل الفدع ومشاكل اليافوخ عند الصغار نتيجة بعض العوامل التي تؤثر فيهم فيشكون عللا برؤوسهم. هذا الرجل يمثل رحمه الله خلال عصرهِ أحد ألباء جماعة تافنكَولت، وقد قمش[3] الاحترافَ والمهارة والدقةَ في مجال اهتمامه. وكثيرا ما حُملتُ إليه وأنا صغيرٌ لأستفيد من علاج على مستوى الرأس حتى أتخلص من أخلاط رديئة تعكر دورتي الدموية وتسبب لي مشاكل في رأسي الصغير. كان علاجه رحمه الله ضربا من الطب الذي يحتاج الدقة والحرص الشديد، فلا يمكن أن يقوم به إلا طبيب[4] محنك. والحق يقال، حسم الله عني العلة منذ زيارته سيما وأن الأسلوب العلاجي المعتمد من لدن الرجل أسلوب طبيعي، ويمكن عده ضمن الأدوية المفردة، ولي طباع لا تقبل فعلا إلا الدواء المفرد، ولا يجديها الدواء المركب أي نفع. ولنا في الطب وقفات أخرى طويلة، كما لنا مع هذا الرجل في مراحل التعليم الإعدادي وقائعُ أخرى نحكيها بتفصيل لاحقا. 

هذا هو العيب الصحي الذي لزم طفولتي بضع سنين، ولكن في المقابل لم تعرف عللٌ كثيرة سبيلا إلى صحتي، والأمر العجيب في ذلك أن إخواني لم يسلموا من الحصبة[5] كما لم يسلموا من السعال الديكي زمن عرفتهما البلدة، وكنتُ حينها أراقبهم بل أقيل[6] بينهم وهم يسعلون إلى أن يلطخوا ملابسي بقيهم فأستيقظ مذعورا باكيا حينا أو مشفقا حينا آخر رغم صغر سني. ومعلوم أن مرضي الحصبة والسعال الديكي علل معدية خطيرة، قد تنقل عن طريق مصافحة المصاب دون معاشرته. وسلمت منها كما سلم الخليل من نار قومه.

هكذا كانت طفولتي، أسعدنا فيها السعيد وأقلقنا فيها التعيس. ولا بد أن وقائعَ كثيرةً مرت قبل أن أدرك ما يدور حولي، سيما السنوات الست الأولى من حياتي قبل التحاقي بالمدرسة في سن السابعة بعد محطات عابرة بالكُتَّاب في البلدة حيث لم يكن التعليم تعليما وظيفيا، إنما كان تعليما طغت عليه أساليبُ “عقيمة” لأسباب عدة، أهمها الطرائق النمطية المعتمدة به، ومنها عدم استقرار الفقهاء الذين يتولون تحفيظ صبيان القرية القرآن، وكذا عدم وعي فئة ليست بالقليلة بالمجتمع بأهمية حفظ القرآن وتعلم العبادات والفرائض وغيرها. ومهما يكن، ليس بالقرية كتابا كما قد يتصور القارئ، ولكن لا شيء يمنع تحصيل العلم إذا تسلح المرء بعزيمة وإرادة قويتين.

لم ألتحق بالكُتَّاب قبل بلوغ سن المدرسة، ولكني ألتحق به في كل عطلة صيفية خلال مراحل التعليم الابتدائي، ولنا فيه وقائعُ جمةٌ، منها الطريف ومنها التليد. ونسردها في حينها. ولكن التحقت مباشرة بالمدرسة لما بلغتُ سبع سنوات؛ السن القانوني آنذاك. ولا تزال غُرَّةُ شتنبر 1992 - 1993 راسخةً في ذهني، حيث نهتني أمي وأنا أمدها بماء إضافي داخل حمامِ مسكننا البسيط ألا أخرج حتى أستحم. حينها أخبرتني أن عمي جزاه الله خيرا سيرافقني إلى الدائرة الحضرية/ مدينة أولاد برحيل حتى نوفر الصور الفوتوغرافية ونقتنيَ كلَّ ما أراهُ مناسبا من حاجيات بما فيها الملابس الجديدة التي تسعد قلبي وتشوقني أكثر للالتحاق بالمدرسة. لم يكن الخبر خبرا مشوشا، إنما كان خبرا جر تفكيري إلى تغيير جديد سيعتري حياتي، ثم إن تمثل المدرسة سوي بذهني لأني لي أخا وهو شقيقي الأكبر يحكي لنا تفاصيلَ الحياة الجديدة للأطفال هناك. ثم إن لي حدسا قويا بأن المدرسة فضاء لتعلم أمور محمودة تعضد المرء في فن الحياة، وهكذا ألفيتها وسأظل.

 ومن لا يتذكر من جيلنا -ولن أسميه الذهبي كما يُتداول، لأن كل الأجيال ذهبية إذا ما عرفت ما لها وما عليها- تلكَ البذلةَ السوداء ذات الخطوط العريضة، وبها جهة الصدر العلامة التجارية “بوص” - Boss. كانت مُسرَّدةً تناسب الصور الفوتوغرافية رغم بساطتها، وكانت من النوع المتين الأنسب لبرد الشتاء. هي البذلة عينُها التي اتخذها هذا العبد الضعيف ذات صباح من أوائل شتنبر من السنة المذكورة، ولكن أكثر شيء أشعل فتيل بهجتي لم يكن البذلة ولا الصور ولا الاستعداد للالتحاق بالمدرسة، إنما كان وسيلة التنقل التي ستكون دراجة نارية من النوع التقليدي ساش (Sachs  تلك الوسيلة المكلفةُ ملكيتُها، والمعقدةُ قيادتها؛ ولكن ذلك لا يهم الصغار مثلي، كل ما يهمهم أنها وسيلة تسمح بتأمل جوانب الطريق والاستمتاع بهواء الصباح بشكل مباشر، ولكن سرعان ما تتحول المتعةُ تلك إلى خوف وقلق واضطراب بوصول الطريق المعبدة التي ستحول السرعة بها نسمةَ الهواء تلك إلى إزعاج الرياح والخوف من السقوط. ولكنها البراءة وضعف الكيان.  



[1]. ما يأتي بعد الباء يكون مطروحا. قال تعالى على لسان موسى: ﴿أتستبدلُونَ الذي هُو أدنى بالذي هُو خير اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾. وهنا إحالة على سأم بني إسرائيل المن والسلوى، فتمردوا، وخاطبوا موسى بلغة منافية للفطرة الربانية ليدعوا الله ليخرجهم مما تنبت الأرض. (فالذي هو أدنى) في الآية هو نبات الأرض. و(الذي هو خير) فيها هو المن والسلوى، وهو طعام الجنة. ومن طبع الإنسان أن يسأم طبعا. ولكن الله يهدي من يشاء.

[2]. نسبة إلى سوس (السوس الأقصى). كان يطلق هذا الاسم قديما على سهل سوس الحالي، وهي منطقة جغرافية تقع جنوب المغرب، تحده سلسلة جبال الأطلس الكبير من الشمال، وسلسلة جبال الأطلس الصغير من الشرق والجنوب، والمحيط الأطلسي من الغرب. تمثل ربع مساحة المملكة المغربية. تشتهر بوجود غابات الأركان الجيد والنادر، كما تشتهر أيضا بالفلاحة، حيت إنها من أكثر المناطق المسقية. والممون الأول للسوق المغربية بالخضر والفواكه على السواء.

[3]. جمع المهارة والاحتراف من كل ناحية في مجال اشتغاله، والدليل أن خلفه من الأبناء يتنكبون كل علاج إذا تعلق الأمر بالرأس. فورثوا منه علاج الكسور والفدع لا غيره.  

[4]. مصطلح “طبيب” هنا أريد به الحاذق الماهر. ولا أريد به هذا المدلول الذي يتمثل في أذهان جُل الناس عند سماعهم لفظة طبيب. والرجل المذكور ماهر حاذق بلا منازع.

[5]. الحصبة علة تعرف بــــــ “بوحمرون”: Rougeole. وفي اللسان  الإنجليزي يطلق عليها: Measles.  

[6]. أنام في الظهيرة بينهم، وهم مرضى يعانون.   


تربية وتكوين

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م). ليلة الفاجعة كما عشتها...   في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة ا...