الطب يغدو أكثرَ مقاومةً للجراثيم

 

بوصول جينر إلى خريف عمره، برز بالساحة الطبية عَلَمٌ بارزٌ، سيبتكر أخيرا منهجا أكثر كفاحا في التعامل مع الجراثيم. هذا العلم هو لويس باستور Louis Pasteur  (1822 - 1895)، الكيميائي، والمبتكر العلمي الفرنسي الذي قلما يجهل اسمه. هو ذلك الرجل المدافع عن نظرية الجراثيم، والذي استطاع أن يطور معالجتَه الخاصةَ إلى تقنية تعريض الأطعمة والمشروبات إلى "إبادة"؛ وهي التقنية التي اعتقدها هو ومساعدُوه في جعل الطعام والشراب آمنين للناس قصد الاستهلاك.  

هذه العملية هي ما يعرف اليومَ بالبسترة، وتتطلب تسخين الشيء على درجة حرارة عالية لقتل جميع الكائنات الحية الدقيقة الكامنة داخله بما فيها البكتيريا والأنزيمات. وقد جاءت الفكرة وليدةَ ردِّ باستور على شكاوى مصانع الجعة التي تفسد قبل أوانها نتيجة تغذية البكتيريا على المكونات الحية التي تركت بالجعة بعد عملية التخمير.

ومن المثير للهزل أن الجعة الفاسدة يعاد ترويجها جنبا إلى جنب مع المزَر الفاتح الهندي IPA [1] بعد دخولها الحديث الحياة اليومية في مجال الخمر. وقد شكل الفساد الحاصل للجعة آنذاك مصدرَ قلق كبير للمنتجين في محاولتهم تقديم منتج ثابت ومستقر على الرفوف. وكم انتظر مستهلكو الجعة ذلك، ولكن حال مشكل البكتيريا المطروح دون تحقيق الأمر. ولهذا الدافع، شرع لويس باستور بقوة في طرح تقنيته التي تنص على أن الطعام يبقى مستقرا بموت البكتيريا. وهو ما مهَّدَ السبيل تماما لمنهج جديد في الإنتاج الغذائي الجماعي، عُرف بأسلوب “معالجة الأغذية”.

ومع أن زعمَ باستور الأكبر للشهرة لم يشمل الأطعمة، استطاع أن ينقذ صناعة الحرير بفرنسا عام 1865 بعدما تأثرت بغزو جرثومي مجهول فدمرها أيما تدمير. وللخِطة التي طورها باستور أخيرا في التصدي لتلك الأزمة الوبائية التي لم يشمل ضررُها كلَّ ديدان الحرير ما يثير الهزل من وقائعَ طريفةٍ.[2] ويبقى أن تراث باستور العلمي قائم على فكرة الإبادة الكلية للجراثيم من أجل حفظِ الصحة العامة.     

سيشتغل باستور أيضا في تطوير عددٍ من اللقاحات، بما في ذلك لقاحُه الأول ضد كوليرا الدجاج عام 1879، ولقاحات أخرى بعده، مثل لقاح ضد الجمرة الخبيثة، وجرثومة السل، والجدري، وداء الكلَب. وسيحصل باستور تقديرًا دوليا اعترافا بعلاجه الناجح للفرنسي جوزيف مايستر Joseph Meister  ذي التسع سنوات، بعدما نجح في علاجه من داء الكلَب نتيجةَ تعرضه لعضةِ كلب مسعور. وبعد مضي ثلاث سنوات، سيتولى مايستر رئاسة معهدَ باستور الخاص في باريس الذي افتُتح يوم الأربعاء 14 نونبر 1888.

هذه الإنجازات كلُّها ستساعد في بروز نهضة كبرى في نظرية الجراثيم سيما وأن الطب اهتم بفكرة الجراثيم اهتماما بالغا إلى حد الهوس. ويقر الاكتشاف الباستوري البارز على أن كلَّ “شيءٍ”معرضٍ للهواء الطلق يُعد وسطا يعج ببكتيريا مجهرية، والتي يمكن القضاء عليها بوساطة درجة حرارة عالية. وهو الأمر الذي سيغير تصورَ الناس للجراثيم والصحة العامة.

أثمرت أعمالُ باستور تغييرا ذا أهمية كبرى، تمثل في بسترة الحليبِ[3] المشهورة. وعلى الرُّغم من أمر استيعاب العملية استغرق بعض الوقت، إلا أن لها زخما كبيرا في أقطار عدة بالعالم، وهو ما دفعها لتغدوَ معيارَ معالجة الأغذية بعد باستور سيما بعد البروز المفاجئ لقضايا السلامة الغذائية نتيجةَ التصنيع.

قد يصدق القارئ، وقد لا يصدق أن الحليبَ لم يكن المنتجَ المستهدف من عملية البسترة كما يُطبق اليوم؛ ذلك أن معالجي الحليب لم يبدؤوا استخدامَها بشكل جماعي إلا بإدراكهم مقدراتها الكامنة حتى تتسنى لهم إطالة مدة صلاحية الحليب المنتج تجاريا، ومنع تخميره المبكر. وباشتمال العملية الحليب القذِر، فقد ساعدت كذلك على قتل العوامل التي تسبب أمراضا فتاكة مثل حمى التيفويد، والدفتيريا أو غيرها من الأمراض التي جاءت وليدة أنظمة الصرف الصحي الهشة.

وعلى الرُّغم من غزارة الإنتاج بهذه العملية اليوم، فإن التبني الواسع لتعقيم الحليب بهذه العملية لم يسلم من خصوم، أو بالأحرى في الولايات المتحدة الأمريكية. وبدافع الشكوك حول ما يحصل للحليب بوِساطة البسترة، وما قد يتم التستر عليه أثناءها، وُضعت هذه العملية في طرف خارجي هامشي حتى أواخر القرنِ التاسعَ عشرَ لما افتتح أولُ متجر رسمي للحليب المبستر بعدما كان بعض منتجي الحليب يقومون ببسترة سرية حتى يدومَ لهم الحليبُ مدة أطول على الرفوف، ويكبحوا انتشار عدوى الأمراض.

شكلت أواخرُ القرن التاسعَ عشرَ، وبداياتُ القرن العشرين فترة حرجة؛ حيث شهد العالم تحولا كبيرا في وجهات نظر معترف بها تاريخيا حول المرض، فبدأ المجتمع لأول مرة ينظر إلى الجراثيم والبكتيريا بشكل عام على أنها كائنات حية مضرة، مع أن أقطارا معينةً تهتم بالتخمير والزراعة باستخدام البكتيريا المفيدة من دون تضارب في الآراء.

السرُّ في الوسط أو البيئة لا البكتيريا

توجد البكتيريا كما نعلم في كل مكان حولنا، بله في دواخلنا. وقد تقدم العلم منذ القرنِ التاسعَ عشرَ إلى نقطة جعلتنا ندرك وجودَ نوعين من البكتيريا: نوع محمود مفيد، ونوع مذموم مضر، الشيء الذي فات تماما باستور ومساعديه؛ إذ نظروا جميعُهم إلي الجراثيم من منظور كونها كائنات مضرة فحسب. ولذلك قضوا ساعاتٍ لا تحصى في مختبراتهم، حيثُ ينكبون لابتكار طرائقَ وتطويرِ أخرى لا لشيء إلا للقضاء عليها.

وتبعا لهذا التصور الذي نظر إلى الجراثيم على أنها خطرٌ أو تهديدٌ، ذاعَ صيتُ ما يزعمه باستور بما في ذلك البسترة واللقاحات، وهو المنظور والتصورُ نفسُه الذي لا يزال سائدا في وقتنا الراهن. ولا غروَ أنَّ لكل منا أصدقاءَ، وأقاربَ، وجيرانًا، يخشون أن يعتريهم مرضٌ ما إذا تعرضوا لبكتيريا أو فيروسات تسبب المرض. لكن ما مسوغات هذا الخوف؟

على عكس ما تعلمه كلُّ فرد في المدرسة، ليست الجراثيم والفيروسات كلُّها مذمومةً ضارةً. وقد عاصرَ علماءُ آخرون باستور وخالفوه الرأيَ أيما خلاف حول نظرياته عن المرض. وادعوا بدورهم أن لهم علمًا يعضد ويثري أفكارَهم، فبدل أن تكون البكتيريا عاملا لاعتلال الإنسان،[4] زعموا أنها الوسط أو البيئة حيثُ تكسب موطئَ قَدَمٍ يحدد ما إذا كان الشخص يصاب أو لا يصاب بأمراض.

وعلى الرُّغم من مكانة باستور بوصفه عَلَما بارزا من كبار العلماء في العالم، ومؤسسا لعلم الأمصال،[5] فليس هذا العالم عمدةً عندما يتعلق الأمر بالتقدم المعقول لفهم آليات عمل جسم الإنسان. بل إن البطل الحقيقي في هذا السبيل - كما أشار كتاب “باستور منتحل كذاب! هُدِّمَتْ نظريةُ الجراثيم!”-[6] هو العالم الفرنسي بيير ج. أنطوان بيشامب (1816 - 1908) Pierre Jacques Antoine Béchamp.[7]

كان لبيير جاك أنطوان بيشامب -الذي عمل خلال فترة عمله دكتورا للكيمياء الطبية وعلم الصيدلة بجامعة مونبلييه (Montpellier)- الفهمُ الدقيقُ والسويُّ لكيفية عمل البكتيريا في التخمر؛ وهو التيار الفكري الذي فنَّده (رفضه) لويس باستور تماما لتأييد فكرة أن عملية التخمر عمليةٌ مذمومةٌ، وتحدث بشكل عفوي من دون سبب. وشكل هذا التقابل عاملا ذا أهمية بالغة؛ إذ شكل منطلقَ منظور كلٍّ من العالمين. الشيء الذي قاد إلى توجهين علميين متعارضين في تعاملهما مع الجراثيم بناءً على تصور كل منهما لطبيعتها.  

وقلما يُنسب الفضل إلى أ. بيشامب في عمله في هذا المجال الرئيس، وعلى الرُّغم من ذلك، كان منافسا علميا لباستور وأنصارِه. وبناءً على اختباراته العلمية واسعةِ النطاق، توصل إلى نتيجة كانت أكثرَ دقة مما توصل إليه باستور؛ إذ أدرك بيشامب أن ما يسمح بانتشارِ الجراثيم وتكاثرِها ليس هو الجراثيم عينُها، إنما الذي يسمح بذلك هو الأوساط التي تعيش بها هذه البكتيريا. كما أقر بأن نشوءَها مرتبط بهذه الأوساط، وليس الأمر بالعفوية والتلقائية كما يزعم باستور.

كان إدراك أ. بيشامب فهما دقيقا مضبوطا وأكثر دقة من تصور باستور؛ فقد أدرك أن الجراثيم كائنات متعددة الأشكال، ما يعني أنه يمكن لها أن تغيرَ الحجمَ والشكلَ بناءً على ظروف الوسط، بينما اعتقد باستور أن هذه الكائنات تظل ثابتة. لذلك ركز الأول على الوسط، في حين ركز الثاني على الجراثيم.

 ويقدم بيرسون Pearson أدلة كثيرةً قويةً دامغةً تثبت أن القائد العلمي الحقيقي خلال عصره كان هو بيشامب لا باستور، لما له من فهمٍ دقيقٍ لطبيعة البكتيريا. بيد أن باستور -الذي زعَم بيرسون نفسُه أنه نسخَ أعمال بيشامب وأفسدَها- كسب الشرفَ والفضلَ في معظم كتب التاريخ الحديث!

وقبل أن أخوض في سبب اعتقادي أن الأضواء سلطت على باستور، أحب أن أذكر رجلا آخرَ عززتْ إسهاماتُه العلمية عمل بيشامب بإعطاء العالم فهمًا أعمق لطبيعة الجراثيم. ويتعلق الأمر بالعالم الفرنسي كلود بيرنارد Claude Bernard[8] (1813 - 1878) الذي على الرُّغم من كونه عالما آخرَ من مُعاصري باستور، إلا أن أعماله لم تكن بعيدةً عن توجهه.

كان شأنُ بيشامب وبرنارد في دراسة الجراثيم خلال القرنِ التاسعَ عشرَ أشبهَ بشأن هولمز Holmes وواتسون Watson؛ ففي الوقت الذي كشف فيه بيشامب الشيءَ الكثيرَ عن الطبيعة الحقيقية للجراثيم أكثر مما كان يقع عليها الفهمُ من قبل، كان برنارد يدرس كيفَ تعمل الجراثيم في أوساط وبيئات متنوعة. ومن مكافآت برنارد على عمله، نجد على سبيل المثال، فهمَنا الحديث للتوازن الحمضي، وتأثيرات الوسط الحمضي أو القِلوي[9] على الكائنات الحية الدقيقة (المجهرية). وإلى برنارد صاحبِ قولة “يمثل الوسطُ كلَّ شيء، والجرثومة لا شيء” يعود الفضلُ في نشوء الطب التجريبي.  

وتعكس العبارة هذه زعمًا واعتقادًا تنكبَ كلَّ ما افترضه باستور حول الجراثيم. ومع ذلك فإن دقتَه (دقة الاعتقاد) في مجاوزة الأسلوب الأكثر تقدما في الطب الحديث لا تزال صامدةً أمام محك الزمن واختباره. وهو ما سنعرضه في كل مناحي مسار هذا الكتاب. وقد أقر برنادرد أن الجراثيم لا تغدو مضرةً مؤذيةً إلا إذا كان وسط عيشها يسمح لها بذلك. وأدرك الرجلُ نفسُه أنه إذا ما تمت المحافظة على هذا الوسط بحماية هذه الجراثيم حتى لا تحدث الضرر والأذى، كان الناس في غنى عن أيِّ قلق ينتج عن الخوف من التعرض لها.

أثمرت إعادة طرح نظرية الجراثيم لبلوغ الأفضل عنقودًا ضمَّت بوادره حبتين، مثلتهما جهودُ كلٍّ من بيشامب وبيرنارد، ورغم ذلك لم يحصل أي من العالِمين على الفضل التاريخي الذي يستحقه. بينما كسب باستور التقديرَ كلَّه في طرحه عملية البسترة على الرٌّغم مما صاحبَ هذه العملية من فهم معيب لطبيعة الجراثيم. غير أن باستور اعترف حقا وهو على فراش الموت أنه جانبَ الصواب؛ ذلك أن البيئة/ الوسط هو كل شيء، ولكن اعترافَه ذاك جاء بعد أن وقعت الفأس في الرأس.[10]  

يعد باستور من أعلام التيار الفكري العلمي المختلف تماما، ولم يكن الشخصَ الوحيدَ الذي غيرَ رأيه لاحقا بناء على تقدم العلوم. فهذا عالم ألماني ردولف فيرخوف  Rudolph Virchow (1821 - 1902)؛ رائدٌ آخرُ للطب التجريبي أمضى سنواتٍ طوالًا بألمانيا ثم ببروسيا خلال القرنِ التاسعَ عشرَ يشق الطريقَ لبروز مجال علم الأمراض الخلوية. وقد اعتقد في البداية أن الجراثيم كلَّها كائنات ضارة، وهو التصور الذي سار على نهجه كثيرونَ خلال عصره، ولكن ما تبقى من حياته المهنية عرف صحوةً علمية، حيث أقر بضرورة تغيير الرأي. يقول في هذا الصدد: “فلو أن لي استطاعةً لأعيش حياتي مرة أخرى، لكرستها كي أثبت أن الجراثيم تبحث عن الأنسجةِ المريضةِ ببيئتها، بدل أن تكون سببا وراء مرض تلك الأنسجة؛ ومثال ذلك أن البعوضَ تبحث عن ماء آسن، ولكنها ليست سببا في ركود البِركة”.

ولذلك أجمع فيرخوف، وبرنارد، وبيشامب على أن الجراثيم ضمنيا لا تشكل تهديدًا عندما تكون البيئة التي تصادف بها كائنا عضويا ما بيئة ملائمة سوية في التعامل معها. والأمر لا يتعلقُ بعدُ بنظامِ المناعة بوصفه العنصرَ المشكلَ للوسط الصحي، ولكن نتحدث عن النظام البيئي الداخلي للجسم، والسلامة الكلية المرتبطة بأشياءَ من قبيل التسمم الكيماوي، والحالة الغذائية.

قد يصدق القارئ، وقد لا يصدق أن نظام المناعة بالجسم يعمل بشكل آلي للتعبير عن نوع من الدعم والمساندة عندما يخذل الوسط البيئي الداخلي في التصدي للجراثيم، وهو تعبير يمثل استهلالَ دفاعَ الجسم. فبعد أن تصابَ أنسجةُ الحجيرة (الخلية)، يحصل جلبٌ للمزيد من الجراثيم، وبذلك يستجيب نظامُ المناعة لطردها وصدها بوسائل دفاعه، فيفلح أحيانا كما يخفق أحيانا أخرى.[11]

وبناءً على هذا، يُعد الاعتناء بالوسط البيئي الداخلي عمدةً وأمرا أوليا، ويبقى تعزيزُ نظامِ المناعة أمرًا ثانيا، ومنه ينبغي ألا يكون الاهتمام البالغ بالجراثيم من الأوليات، ومع ذلك هذا ما نحن عليه بمجتمعنا اليوم. وتبقى فرضيةُ باستور الخاطئةُ حول كون الجراثيم سببَ الأمراض النموذجَ أو المعيارَ الذي عضَّ عليه الطبُّ الحديث بالنواجذ في العلاج.

إن أهميةَ ذلك من منظور علاج السرطان والوقاية منه -كما سنكشف- أهميةٌ بالغةٌ؛ ذلك أن المرضى اليوم ليسوا على دراية بأهمية الاعتناء بالوسط الصحي من أجل وظيفة مناعة مثلى. وفي أغلب الأحوال، يخبرون بأن السرطانَ مجرد مقامرة، وأن الذين أصيبوا به ليس لهم خيارٌ سوى الخضوع لعلاجات مكثفة تحاول - على نهج باستور في تعامله مع الجراثيم تماما- أن تدمرَ الخلايا السرطانية بمواد سامةٍ بدل أن تصلحَ المحيطَ المتضرر من اختراقها.  

ثمة قصورٌ آخرُ متأصلٌ في نظرية الجراثيم عند باستور، مرده عدم التمييز بين البكتيريا الضارة وتلك المفيدة. والعلم الحديث –على الرُّغم من أوجه قصوره الجَمَّة- يوشك أخيرا على استيعاب دقيقٍ بأن هذه البكتيريا المفيدةَ -التي غالبا ما يشير إليها باسم البروبيوتيك- عمدةٌ في مناعةٍ قويةٍ. وبإمكان المرء أن يقول إن البروبيوتيك عنصرٌ جوهري في منظر الوسط.

ويؤكد الطبيب الأمريكي الدكتور ميشيل لام Michael Lam[12] -بوصفه باحثا بارزًا في مجال الوسط البيولوجي- أن البكتيريا المفيدة (البروبيوتيك) ضروريةٌ للحفاظ على ما وصفه “بتوازن التفاعل الدقيق/المجهري بين آلاف الملايين من البكتيريا المفيدة والبكتيريا الضارة/ الممرضة”. ولعلَّ الأمعاءَ حلقةُ وصلٍ مهمةٌ في نظام الوسط البيئي للجسم،[13] وكثيرا ما تشكل نقطة ولوج عبرها يكسبُ السرطانُ موطئَ قدم بالبدن.

كما يؤكد الدكتور م. لام نفسُه أهميةَ الحفاظ على القلوية الوظيفية، ذلك أن الخلايا السرطانية تزدهر في البيئة القِلوية.[14] ويتماشى منهجه الطبي حقا ونظرية وسطية الجراثيم التي تشبث بها كل من فيرخوف، وبرنارد، وبيشامب، وهو المنهجُ نفسُه الذي سار على نهجه في علاج السرطان عديدٌ من العلاجات “البديلة” والتكميلية، وسنكشفها في فصولٍ لاحقةٍ من هذا الكتاب.

لا يزال الطب الغربي في معظمه مرتبطا أيما ارتباط بفهمٍ غير سوي للجراثيم، وذلك برفض عنصرِ الوسط البيئي وإقصائه في مجال الطب على حساب الصحة العامة. وقد خلقَ هذا الفهم لملايين الناس مقاساة هُم في غنى عنها، بل ضحايا نتيجة العلاجات الفاشلة التي تستهدف الجراثيم، ولعقاقير السرطان الصيدلية من هذه العلاجات نصيبٌ ليس بالقليل.



[1] . نوع من الجعة يصنع بطريقة دافئة نسبياً، فتعطي مشروباً له قوام، حلو المذاق، له نكهة الفاكهة. يصنع المزر عادة من نقيع الحبوب كالشعير ومن حشيشة الدينار (الهوبلون). وللمزر الفاتح الهندي تاريخ طويل في الولايات المتحدة وكندا كذلك، وتقدمه مخمرات كثيرة هناك بطريقتها. ويمكن التوسع في نسبة تسمية هذا النوع بهذا الاسم باطلاع تاريخ الخمور والجعة منها على وجه الخصوص.

[2] . من هذه الطرائف أنه حين طلب جان باتيست دوما (أستاذ قديم لباستور) عام 1865 من باستور رئاسةَ لجنة علمية لاستقصاء ذلك الوباء الذي كان يدمر صناعة الحرير في جنوب فرنسا، أجابه قائلا: أرجو منك أن تأخذ بعين الاعتبار أنني لم ألمس دودة حرير قطُّ في حياتي. ولم يمضِ شهرٌ واحدٌ حتى لمس باستور العديد من الديدان، بل وبدأ تحقيقا واسعَ النطاق حول أسباب الوباء. 

[3] . البسترة: Pasteurization هي عملية تعقيم الحليب بقتل البكتيريا المجهرية الكامنة به. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى اسم مبتكرها (باستور).  

[4]. هكذا تصورها بلويس باستور Louis Pasteur ومساعدوه وأنصار نظرياته.

[5] . علم يعنى بدراسة سوائل الجسم عن طريق البحث في تكوين بلازما الدم واحتوائه على أجسام مضادة، أو مولدات الضد، والتفاعلات التي تحصل بينها.

[6] . كتاب ألفه أحد خصوم باستور، هو الدكتور ر. ب. بيرسون R. B. Pearson .

[7] . “باستور منتحل كذاب! هُدِّمَتْ نظرية الجراثيم!” عنوان يمثل خيرَ دليل على صراع علمي قوي بين دكتورين بارزين. وفي البناء للمجهول (هُدِّمَتْ نظرية الجراثيم) وفي صفتَي “منتحِل” و“كذاب” ما يعكس تخسيس أعمال باستور، وفي صدارتها نظرية الجراثيم.

[8] . عالم فرنسي شهير. عالم وظائف الأعضاء. ومؤسس المدرسة التجريبية العلمية.  

[9] . صفة لكل مادة لها خواصُّ القَلْي.

[10] . كناية عن مجانبة باستور الصوابَ في نظرية الجراثيم التي دافع عنها طيلة حياته العملية بالمختبرات حيث قضى ساعات لا تحصى. وكناية كذلك عن سوء الفهم الذي خلفه بعد موته.

[11] . هناك أنواع من الجراثيم والفيروسات التي تخدع جهاز المناعة. ومثاله جرثومة السل (Tuberculosis) التي تدخل عن طريق الهضم أو التنفس فتحاور الكريات البيض، وتداورها لتهرب فتستوطن في عظم تنخره أو في رئة فتعبث بها. وللتوسع، انظر: 

الدكتور صبري القباني: طبيبك معك؛ دار العلم للملايين، بساط بيروت، ط.21، 1986، ص. 259 (بتصرف).

[12]. دكتوراه في الطب، وماستر في الصحة العامة. وهو طبيب معتمد لدى المجلس الأمريكي للطب التجديدي ومكافحة الشيخوخة. 

[13]. إن جزءا كبيرا من نظام مناعة الجسم مرتبط بالأمعاء. وقد سبقت الإشارة إلى أن ضرورة الاعتناء بالوسط البيئي الداخلي باعتباره عمدةً في التصدي للجراثيم الممرضة.

[14] . سبق الإشارة إلى هذه الصفة بالإحالة رقم 49. وعموما يراد بالبيئة القلوية كل وسط يضم مركّباتٍ كيماويّةً لها خواصّ قاعديّة، وتتّحد بالأحماض لتكوِّن أملاحًا. والمعادن التي تدخل في تركيبها إمّا معادن قلويّة كالصوديوم والبوتاسيوم وإمّا معادن قلويّة ترابيّة كالكالسيوم.


 

الكنزُ العجيبُ!


لمح فجأة أنوارا غريبة، انبعثت في جزيرة، وتملكه الفضول لمعرفة مصدرها. قصد المكان ولم يسوف الزيارة. ولما بلغه وجد هناك شجرة البلوط، وفي أغصانها القريبة من الأرض علقت بكرة لرفع الأثقال، رجح أنها كانت لسفينة من السفن العملاقة، لذلك أيقن أنه بلغ موضعا اكتنز شيئا ثمينا! 

عاد إلى بيته وقلبُه مفعمٌ بالفرح والسرور. فطلب من خليليه العزيزين المساعدة، لم يتأخرا في الاستجابة لطلبه؛ فقد حرص الثلاثة على البكور لعين المكان، ومعهم المعاول والمجارف، وغيرها من الأدوات البسيطة المستعملة في الحفر والتجريف.

ها هي ذي جزيرةُ الكنز. لقد بلغوها، وشرعوا يحفرون. طالت بهم مدة الحفر حتى وجدوا أنفسَهم في نفق عمودي دائري، وقد ضم النفقٌ قطعا كبيرة مرصوفة من خشب البلوط، ممتدة عبر النفق، وقد أثبتت نهاية كل قطعة منها بقوة في الجدران. هي حواجز في عملية الحفر، الشيء الذي استدعى نزعَها وسحبها إلى خارج النفق. وقد استمر الحفر، والأمل يصاحبهم للعثور على صناديقَ من الأحجار النفيسة. لقد خاب الأمل، لم يكن هناك سوى الطينِ!

لم يستكن الثلاثة؛ وبعد أن جاوزوا موضع الطين المكتشف، عنت لهم بالمصادفة طبقةٌ أخرى من قطع الأشجار على عمق عشرين قدما، وطبقة أخرى على عمق الثلاثين! لقد كانت المهام أكبر من إمكاناتهم وقدراتهم، فقرروا الرضوخ على الرُّغم من اقتناعهم أن الكنز الثمين يبعد بضع أقدام عن معاولهم ومجارفهم.    

ذاع صيت الحفرة أرباع الجزيرة، وتملك الفضولُ آخرينَ من محبي التنقيب، وبعض رجال الأعمال، والشركات الكبرى. تلك التي أحضرت اليد العاملة بما يكفي، وآلات الحفر الحديثة، وقامت بالحفر سنواتٍ طوالا، وانتهت العملية بما آل إليه تدشين صحابُنا الثلاثة. لم تكن الخسارة هذه المرة في عدم العثور على الكنز الثمين فحسب، لكن شملت بعض الأرواح، كما شملت المال والعتاد أيضا.

نال الحفرُ نصيبَ الأسد في الحفرة، وفي الموضع الغريب، ولكن كلما تعمق الحفرُ، عنت عقبات وعراقيلُ وألغاز، وموانعُ مثيرة عجيبة غريبة مختلفة، تنتهي بغرق الحفرة بالماء، كأن حفرا لم يكن!

 



تقرير فليكسنر

  الشر الذي مهَّد السبيلَ لاستحواذ النفط على الطب


انتقل الطبُّ من تمثيل ذلك التوازن الدقيق بين العلم والفن- والذي عبرتْ عنه أشكالٌ خاصةٌ عدةٌ وجسدتْ لامركزيته للانفتاح على التغيير وَفق ما يتطلبه التقدم- إلى نظامِ مرسومٍ أحادي المسار، جازمٍ مشترك لا يقبل الدحضَ. فكيف تأتى بلوغ ذلك؟ والأهم من ذلك، كيف ولِمَ تحولَ الطبُّ بشكل كبير من استخدام النباتات الطبية لمساعدة الجسم على الشفاء بشكل طبيعي إلى استهداف أعراض المرض فقط باستخدام المركبات الصناعية[1] الكيميائية- البتروكيماوية. ونعني باختصار، استعمال هذه العقاقير الصيدلية؟

للإجابة عن هذه الأسئلة المهمة، لا بد من الرجوع إلى ورقةٍ علمية نُشرت سنة 1910، ويتعلق الأمر بتقرير فليكسنر المعروف بـ Flexner Report، وهو التقرير الذي غير نهائيا مسارَ الطب الغربي لتحقيق كافة الأهداف والمقاصد. وقد ارتبطت بوادرُ هذا التقرير حين كُلِّفَ أبراهام فليكسنر[2] من لدن شركات كبرى ورابطة التسويق الأمريكية (AMA) لإجراء تقييم لخمس وخمسين ومائة (155) مدرسة طبية بربوع أمريكا الشمالية حيثُ قام الرجلُ بتقييم طرائق التدريس المختلفة في كل مدرسة لجمع المعلومات ومن ثمة وضعُ النظام الطبي الموحد لبلوغ نتائج مثمرة كما راهن على ذلك رؤساؤه في هذا العمل. 

قبل نشر تقرير فليكسنر، كان ما ينعته كثيرٌ من الناس اليوم بالطب “البديل”[3] مجردَ طب قديم. وقد استغل الأطباء الممارسون جملةً من الخيارات العلاجية مثل العلاج التجانسي/ التشاكلي[4] الذي تم تدريسه في كليات الطب في جميع أنحاء البلاد، كما كان طب النباتات يحظى بتقدير كبير داخل قاعات التعليم العالي، مضطلعا بدوره الخاص ضمن الاتحاد الفلسفي الواسع للتعليم الطبي.

احتل التعليم الطبي خلال القرنِ التاسعَ عشرَ المقامَ الأول في التدريس، وكان يدرَّسُ بإحدى الطرائق الثلاث الآتية:

·       برامج تدريب مهني من خلاله يقدم الممارسون المحليون التعليمات العملية الفردية لطلابهم.

·       المدارس ذات الملكية الخاصة، حيث يحاضر الأطباء مجموعاتٍ من الطلاب بكليات طب خاصة.

·       برامج تكوين بالجامعة، حيث يتلقى الطلاب تدريبا يشمل جانبا نظريا وآخرَ عمليا: التنظير الديدكتيكي بقاعات المحاضرة التابعة للجامعة، ثم التدريب العملي السريري بالمشفيات.  

 وبناءً عليه، اختلفت طبيعة التكوين في الطب قبل سنة 1910 بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية تبعا للمؤسسة، ونوع المدرسة التي يدرَّس بها. وكما كان الأمر مع معظم مؤسسات التعليم العالي آنذاك، اتخذ السعي وراء استجلاء الحقيقة بالبحث العلمي أشكالا خاصةً عدةً، وأدرك الناسُ ذلك بوصفه أمرا طبيعيا تماما. وثمة مدارسُ متعددةٌ للفكرِ وكافةِ مناهج الطب، ولكل منها نجاعته الحقيقية. وغدا الأمر في التعليم الطبي نموذجَ سوقٍ حرةٍ، وتمحورَ هذا النموذجُ حولَ الانفتاح وقَبول الأفكار الجديدة، لا تحت تحكم فئة قليلة وهيمنتها المركزية. وكانت السابقة الإيديولوجية للطب من الأنماط الفكرية التي رفضت بطبيعتها تقنياتِ إدارة الأمراض؛ تلك التقنياتِ التي يعتريها الفسادُ بسهولة والتي نراها كثيرا اليومَ. ولهذا السبب، ازدهر الطبُّ بوصفه فنَّ الشفاء ازدهارا رائعا خلال تلك الفترة.

طُرِحت تلك الأفكارُ التي قاومت بنجاح كبير ذلك الفحص الدقيق، في واجهةِ ما كان مقبولا بشكل عام على أنه العلم الطبي السليم. وفي واقع الأمر، يمكن تحقيق أعظم التطورات في الطب من قِبل أيِّ شخصٍ ذي عقل استقصائي مستطلع، مزودٍ بالوسائل والمتطلبات التي تقود إلى النجاح والتوفيق، وذلك من دون موانع بيروقراطية لا مسوغَ لها.

استفدتُ من صديقي العزيز روبيرت سكوت بيل Dr. Robert Scott Bell؛ دكتور في الطب التجانسي/ التشاكلي خلال مقابلة أجريت معه في سلسلة “البحث عن العلاج”[5] شيئا حولَ طبيعة الطب قبل تقرير فليكسنر، وهو ما أذهلني حقا. يقول: “قدمتْ مدارسُ الطب خلال أواخر القرنِ التاسعَ عشرَ وصدرِ القرن العشرين الشيءَ الكثيرَ المتباينَ؛ فثمة مدارس الطب التجانسي، وأخرى للطب الطبيعي، ومدارس انتقائية لطب النباتات... وغيرها، ولم تكن هناك طريقة وحيدة للتكوين في هذا المجال. كلُّ ما حدث أن مؤسسات “ركيفلر Rockefeller و“كارنيجي Carnegie” ركزتْ اهتمامَها لتؤسسَ مقاربةً موحدة باعتماد المعايرة. وبمعنى آخر، توحيد المنهج.”  

وسرعان ما هدمت تلك المعايرةُ أو ذاك المنهجُ الموحدُ النموذجَ اللامركزيَّ للتعليم الطبي، فتم إدراج مجمل الطب تحت طائلة هيمنة أقلية طبية وحيدة مركزيا، والخروج عنها ازدراءٌ ضمنيٌّ من منظورِ مؤسسيها وذوي النظرة إليها من خارج على السواء. لقد ولت أيامُ البحثِ العلمي الفعلي الحقيقي، وضُحي به لصالح النموذج القادم للطب السلطوي/ الاستبدادي، وقد كان تقرير فليكسنر أكبر عاملٍ مهَّدَ السبيل لذلك. 


الحيلةُ الطبيةُ الكبرى لإمبراطورية ركيفْلر النفطية[6]

قد يتساءل القارئ الآن عما ورد في هذا التقرير اللعين لفليكسنر، والذي هدم بقوة الطرائقَ المعمول بها قديما. ويتعلق الجواب أكثر بما لم يتم تضمينه فيه. وبشكل أوضح، الطرائق التي تلاعبت بها هذه الإغفالات بنجاح بالرأي العام من أجل تفنيد الطريقة القديمة للتعليم الطبي في أمريكا التي وُصفت بطريقة مخلخلة عقيمة في حاجة ماسة إلى الإصلاح.

إدراكا بأن الأمريكيين قد اندمجوا تماما مع فكرة التعليم الطبي بوصفه نموذجَ سوقٍ حرةٍ، أدركَ مسيرو كل من مجموعة ركيفلر ومجموعة كارنيجي بوصفها المؤسسات الكبرى الممولة والمدعمة للتقرير أنها لا تستطيع الخروج مباشرة لتقول إنها ترغب في معايرة الطب وَفق نظام موحد تحت سيطرتها. ومن أجل هذه الرغبة، كان على هؤلاء أن يكشفوا طريقةً لإقناع الرأي العام بأن التعليم الطبي في حاجة ماسة إلى الإصلاح.  وهو ما تأتى لهم بترويج فكرة مُفادها أن كلياتِ الطب ومدارسَه تنهب الناسَ من أجل مكاسبها الخاصة.

سلك عملُ العديدِ من مدارس الطب بالجامعات وكلياتها على السَّواء نهجًا قوامه أقسام تدريس تسعى للربح. وقبلت هذه المدارسُ تقريبا كلَّ من رغب في التعلم المؤدى عنه، وتباينَ المنهج الدراسي على نطاقٍ واسعٍ تبعا للمؤسسة التي يُدرَّس بها، فضلا عن المدرسين المشرفين على تنفيذ هذا المنهج. ولإقناع الناس بأن هذا النموذج مفتوح المصدر للتعليم الطبي يشكل إساءةً بطريقة ما للمجتمع، وجب تغيير شيء يشكل عمدةً. وبعد التمكن من تحقيق ذلك، يغدو ممكنا إلغاء النظام القديم ومن ثم الدخول في نظامٍ طبي معايَر (موحد)، متحكَّم فيه أيما تحكم؛ بحيث تسهل محاكاتُه، فيُعتمَد تدريسُه على نحو عام عالمي بكليات الطب جميعِها.

وعلى أنماط المدارس الثلاث التي أشرتُ إليها في معرض طرائق تدريس الطب قبل 1910 أن تنزاحَ إذا كان تنزيل رؤية ركيفلر لنظام التكوين الطبي الأكثر “معايرةً وعسرًا وتكلفا” ستتم على نطاق واسع على حدِّ تعبير واضع التقرير المذكور (أبراهام فليكسنر).  

كان بعض أشكال التعليم الطبي في ذلك الوقت بإقرار الجميع هراءً فعلا. ولكن ثمة خِطةً بعيدةً عن الأنظار راهنت على طمس العديد من الأشكال المشروعة للطب، التي من شأنها أن تنافسَ هذا النظامَ الجديدَ مما قاد بنجاح إلى تحويل الطب إلى صرف الحبوب الموصوفة طبيا بوصفها علاجاتٍ موحدةً معايَرةً لجملة متنوعة من التشخيصات الطبية المعمول بها. وقبل تقرير فليكسنر لم تكن هناك أيُّ صناعة صيدلية حقيقية في حد ذاتها، كما ليس ثمة سلطةٌ حاكمةٌ وحيدة تفرض نفسَها على مسار الطب. ولكن حصل التبدل بسرعة بعدما رأت صناعة النفط إمكانات الربح بطرح فكرتها الجديدة.

قال لي الدكتور بيل Bell: “بدأ مسيرو ركيفلر يكتشفون من خلال الكيمياء العضوية أنه بإمكانهم تغيير الجزيئات النفطية في شتى أنواع الأشياء. ومن ثم طوروها إلى عقاقيرَ خاضعةٍ للبراءات، أو جزئيات دوائية”. يضيف قائلا: “إنها صناعة مربحة للغاية، ولكي تلقى قَبولا لدى الجمهور -وهي بكل صراحة سُمٌّ على عسل- وجبَ على هؤلاء فرضُ هيمنتهم على نظام التعليم.” 

كُلِّفت نخبةٌ من الباحثين بإشراف أبراهام فليكسنر (وبدرجة أقل شقيقه سيمون Simon) بتطوير إطار جديد للطب في أمريكا الشمالية. وقد حفزتها مجموعتا ركيفلر وكارنيجي بتنسيق مع رابطة التسويق الأمريكية. وهذه النخبةُ المسلحة بعقولٍ لامعةٍ سهلةِ المراس استطاعت أن تغيرَ وحدها مسار التعليم الطبي بأمريكا الشمالية. وخلال النصف الثاني من القرنِ التاسعَ عشر، حفزت جهودُ رابطة التسويق الأمريكية من خلال ضغوطها على الحكومة تلكَ العلامةَ التجارية “الصارمة للتعليم الطبي التجريبي المهيكَل” ونعني مجموعة ركيفلر وآخرين ممن كانوا نصب أعين مسيري تلك الرابطة لما لهذه المجموعات من فضل وريادة في تقرير فليكسنر. وقد كان الأستاذُ فليكسنر نفسُه والنخبةُ التي أشرف عليها على السواء مجردَ بيادق تم تحريكها لربح الرهان وبلوغ اللعبة النهائية.

وبحكم الالتقاء والتضافر خلال صدرِ القرن العشرين، طورت المجموعة المسماة “حَلقة هوبكينزHopkins Circle صرحا كاملا جديدا للتعليم الطبي، وهو عملٌ حقق فعلا رهانَ رابطة التسويق الأمريكية ومجموعتي ركيفلر وكارنيجي. فحصل نجاحٌ كبير لمجموعة  [7]Big boys وفي المقابل خسارةٌ جسيمة للأمريكيين، ناهيك عن مدارس الطب المختلفة التي توقفت تماما عن العمل. وهذا ما أعلن عنه محررو مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (JAMA) سنة 1901 حول أهدافهم بشأن التعليم الطبي: “من المأمول أنه مع ازدياد تطبيق النماذج المعيارية على نحو عام، سيقل عددها قريبا على نحو وافٍ، والأنسب منها وحده الأجدر بالبقاء”. 

نظر هؤلاء الداعمون إلى الأمرِ نظرة إيجابية؛ ذلك أن من شأن جهودهم أن تقود إلى تضييق كبير في ميدان التنافس عندما يتعلق الأمر بالتعليم الطبي. والواقع أن طمسَ الفلسفات الطبية كان هو الغاية الكبرى منذ البداية، وهو ما سيسمح في وقت لاحق لمؤسسات كبرى بأن تخسف بالطب، وعلى رأسها كلية الطب[8] بجامعة جونز هوبكينز Johns Hopkins التي تُعد اليومَ من منظور كثيرين المعيارَ الذهبي والمؤسسةَ المثال للتعليم الطبي القائم على أسس علمية.

يقول الدكتور بيل: “ستتمكن هذه المصالح من الهيمنة على نظام التعليم، ونشوء احتكار طبي بالتركيز أساسا على طمس كل المنافسات ومن ثم الترخيص للتعليم الطبي البتروكيميائي.” وأردف قائلا: “ذلك كان تقرير 1910 المعروف بتقرير فليكسنر. والذي كُلف بإنجازه الباحث أبراهام فليكسنر مع أخيه سيمون، وقد كان تقريرا مفَوَّضًا مدروسًا مسبقا.”

مَثَّل فليكسنر -بوصفه باحثا جالبا الحظَّ- هذه الحركةَ الجديدةَ لتأسيس الطب الـمُمَركَز.[9] وبفضل تلك المساعدة المالية التي قدمها أخوه الأكبر سيمون؛ هذا الصيدلي الذي عمل رئيسا سابقا بمعهد ركيفلر، فضلًا عن مساعدة جون دافيسون ركيفلر نفسِه، استطاع فليكسنر أن يمضي أكثرَ من سنة ونصف في السفر حول العالم مدونا ومناقشا ما يجب تغييره لتحقيق رهان العصبة المسيرة. ففي أوروبا ظفِرَ الباحثُ بكنز من المعارف العميقة حول طريقة صياغة نموذج التعليم ببلدانها، وهو ما جمعه في بحث ميداني سماه “الكلية الأمريكية”، وهو عمل سرعان ما لفت انتباه هنري سميث بريتشيت Henry S. Pritchett؛ رئيس مجموعة كارنيجي.            

قرأ هنري س. بريتشيت الكتابَ المذكورَ وكشف أنه إنجازٌ من العيار الثقيل، حيث يتماشى ونظرة مجموعته (كارنيجي) لإصلاح التعليم، الشيء الذي جعله يدعو مؤلِّف العمل (أي فليكسنر) لتقييم المشهد الطبي في كافة ربوع أمريكا الشمالية ومن ثم تطوير دراسته. وعلى الرُّغم أن خبرة فليكسنر بعيدةٌ كل البعد عن مجال الطب إلا أنه مدرسٌ بارز، وذو درايةً كبرى بمجال التعليم بحكم تجربته السابقة في الميدان، وهو الدافع الرئيس وراء انتخابه لتلك المهام من لدن هنري بريتشيت. وفي هذا الصدد يقول الدكتور توماس دوفي Thomas P. Duffy (دكتور في الطب): “وحيث إنهم نظروا إلى مشكلة التعليم الطبي على أنها مشكلة تربوية، اعتقدوا أن المدرسَ المحترفَ البارعَ مؤهَّل على وجه أفضل لمعالجة هذا البعد من المشكلة.”[10]

ومن أبرز ما يثير اهتمامَ أولئك الذين يحاولون هدمَ النموذج التعليمي الكلاسيكي أنَّ عملَ عددٍ هائلٍ من كليات الطب لا يعدو أن يكون أفضلَ الممارسات البُدائية في الطب. وهو القلقُ نفسُه الذي عبرتْ عنه رابطة التسويق الأمريكية من خلال دعايةٍ قامت بها لاستمالة الرأي العام. ويرى مساعدو الأستاذ فليكسنر وحُماتُه أن تسجيل الطلاب بكليات تعتمد هذه البرامج الطبية المتدنية عامل وراءَ قلةِ عدد الأطباء المؤهلين والأكفاء، وبناءً عليه انتكاس المهنة.    

ويصف الدكتور توماس دوفي في مقالٍ له حول دورَ فليكسنر بوصفه وكيلَ تغيير بقوله: “يمكن أن نصف مهمةَ فليكسنر وصفا غيرَ مغرٍ وليس بالضرورة أنه غير دقيق؛ ذلك أن الرجلَ كان حاقدا ليهدمَ النظام الطبي للمدارس الطبية المتدنية التي كانت تغمر البلاد بأطباء ذوي مستوى تدريب ضعيف.”

ثمة عاملٌ رئيسٌ لموقف فليكسنر الفلسفي من التعليم الطبي هو ميله الجديد إلى النموذج الألماني، الذي كشفه خلال رحلاته ودراساته بالخارج، وهو نموذج يتطلب خضوعَ طلابِ الطب الناشئين جميعِهم لتدريب علمي دقيق بمسارح مخبرية قبل أن تطأ أقدامُهم المشفياتِ الجامعيةَ للتداريب والاختبارات السريرية. وهو نظام معمول به فعلا بكلية جونز هوبكينز المذكورة آنفا، ولذلك كان ترويجُه هينا يسيرًا إن لم يكن ثمة سبب آخر غير سابقة بسيطة. ولكن انحيازَ فليكسنر وميلَه إلى العلم بوصفه “القوة الدينامية في حياة الطبيب”، وتبعا لهذا الانحياز، ذاع صيت ما يزعمه فليكسنر بما فيها تنزيل منهجه الجديد للتعليم الطبي بأمريكا، وهو ما ساعد على تحويله من فن إلى إجراء يغيب فيه التمثل.

والواقع أن ما حققه فليكسنر يعود إلى نظام توحيد العلم والطب ضمن أنموذج/براديم تعليمي اقتبسه من ألمانيا، وهو ما سارت على نهجه وروجت له مجموعات هي كارنيجي، وركيفلر، ورابطة التسويق الأمريكية، وغيرهم من وسطاء سلطويين ممن له نفوذٌ وتأثيرٌ اليومَ، فكانت النتيجةُ تغيير مسار الطب بنجاح بين عشية وضحاها.



[1] . نسبة إلى الصناعة، أي كل ما كان مصنوعا لا طبيعيا (عقار صناعي/ عطر صناعي/ إلخ...) أما الاصطناعي فيراد بها ما كان مبالغا في صناعته (ذكاء اصطناعي/ قمر اصطناعي/... إلخ).

[2]. أبراهام فليكسنر (1866 1959): أستاذ أمريكي. يُعد من كبار المدرسين بأمريكا خلال القرن العشرين. له تقرير يُعرف بتقرير فليكسنر، وكان هذا التقرير أكبر عامل مهَّدَ السبيل في بروز نموذج سلطوي استبدادي في الطب.

[3]. تعد العلاقة بين الترجمان والمؤلف علاقة وثيقة جدا. ومن أجل بقائها كذلك، على الأول أن يحرص كل الحرص على نقل الخطاب في اللغة المصدر كما أراده الثاني. ونجد هذه اللفظة في النص الأصل واردةً بين مزدوجتين للدلالة على موقف ما للكاتب. ونقول -وقد يخالفنا غيرُه الرأيَ- إن صفة “بديل” صفة في حاجة ماسة إلى إعادة النظر؛ إذ الطب الطبيعي أصيل، وكما رأينا مع بقراط، فالطب القديم عمدةُ الطب وأساسُه. ومنه لا تناسب صفة “بديل” الأصل في الطب وفي غيره من المجالات العلمية. أضف إلى ذلك أن البديل لا يلجأ إليه إلا عند عجز الشيء الموجود عن تحقيق المراد، سواء في المجال الطبي أم في غيره. وهنا مكمن الخلل؛ فمن غير المنطقي أن يوصف الطب الأصيل بالبديل وعليه بُنيَتْ قواعدُ الطب!

[4]. هو نظام علاجي وأسلوب من أساليب  الطب الأصيل، يطلق عليه في الطب الغربي (Homeopathy ويستند إلى المبادئ التي صاغها صامويل هانيمان سنة 1796. ويعتمد هذا العلاج ناموسَ (قانون) أبي الطب بقراط، والذي ينص على العلاج بالمِثل (العلاج على النحو ذاته)، ومنه سمي بالعلاج التجانسي أو التشاكلي. ويقوم المبدأ الرئيس لهذا العلاج على إعطاء المريض كميات قليلة جداً من المكوّنات التي تسببت أعراض مرضه، بعد مرورها بعملية تخفيف بهدف إزالة المادة الضارة منها والإبقاء على الجزء المفيد. ومثال ذلك أنه يمكن استخدام مزيج من سموم النحل لعلاج التورّم والحكة، علمًا بأن لسعة النحلة تسبب التورم والحكة (علاج العلة بمسبب أعراضها).  

[5] . هو الفيلم الوثائقي الرائد لطاي بولينجر. ويمثل مرآةً تعكس بشكل فني سبل استقصاء الكاتب سبل العلاج بعقل يهوى الاستطلاع. ويمكن ترجمة لفظة (Cures) بالشفاء بدل العلاج، ومرد ذلك ليسَ كلُّ علاجٍ شفاءً ولكن كلَّ شفاءٍ علاجٌ. وبمعنى آخر، قد يستفيد المرء المصابُ بعلة ما من حصص علاج عدة دون حصول الشفاء. ولذلك نفهم أن اللفظة المناسبة لعنوان سلسلة فيلم الكاتب هي الشفاء لا العلاج.     

[6]. هي مجموعة Standard Oil  التي تم تأسيسها سنة 1870 على يد جون دافيسون ركفلر John Davison Rockefeller. ويلاحظ من خلال اسم الشركة أنه أنسب لما يراهن عليه المنهج الطبي الحديث (اعتماد مقاربةٍ طبيةٍ موحدة باعتماد المعايرةStandard  أو توحيد المنهج في الطب كما أشرنا آنفا). 

[7] . هي مجموعة موسيقية ماجنة بولاية تِكساسTexas  الأمريكية. وتعد رائدة لموسيقى البانك الغريبة.

[8]. هي كلية لتدريس الطب في الولايات المتحدة الأمريكية. تم تأسيسها سنة 1893، وتقع في مدينة بالتيمورBaltimore  بولاية ماريلاند Maryland الأمريكية.  

[9]. الموضوع تحت السلطة المركزية للمجموعات التجارية المهيمنة خلال عصرها. 

[10]. من ورقة له سنة 2011 بعنوان: “تقرير فليكسنر بعد مائة سنة”.






 

المقاهي والثقافة

 

   

شاع لدى الكثيرين بمن فيهم النخبة المثقفة أن لارتياد المقاهي دوره في الثقافة والانفتاح والتأثير في المجتمع إيجابا، ولكنها فكرة يمكن القول عنها إنها من صنع محبي هذه المقاهي أنفسهم، لأن المثقف الحقيقي من منظورنا يؤثر في مجتمعه التأثير الإيجابي بصرف النظر عن الأماكن التي يرتادها. ولعل من مسوغات مَن يؤمن بهذه الفكرة إيمانا أعمى أن قهوة المقاهي غير قهوة فضاءات غيرها.

وحتى لا أزكي نفسي وأقول إني أفضل ممن يرتاد المقاهي وأفضل ممن يكتب ويكفر، أصف قهوتي الشخصية التي أراها مشروبا ثانويا لا عمدة في حياتي. هذا المشروب الذي أحتسي منه بعض الجرعات بعد القيلولة في غير رمضان، وبعد الإفطار في رمضان، ولكن هذه الجرعات يستغرق مني تحضيرها ما يزيد عن نصف ساعة، ومرد ذلك أن البن المستعمل في تحضير قهوتي ليس البن المسحوق المعلب الذي يعتقد البعض أنه يحفز التركيز أو يخلق عجب العجاب، وليس هو الحَب الذي يقتنى عند بعض العطارين الذين يوهمون زبناءهم بأنه البن المثالي، ويسحق مع بعض الأعشاب لحصول نكهة وأريج لطمس بهرجته.

إن البن الذي أعشقه أخضر طبيعي، أقوم بتحميصه على نار وفي إناء خزفي، وحين يحمص يترك حتى يبرد، ومن ثم يسحق، ويغربل، ويوضع على نار هادئة فوق إناء خاص بتحضير القهوة، وحينها يصفى، ويحتسى. وهكذا نحصل مشروبنا متى شئتنا، ومن ثم نقول إننا احتسينا القهوة. ولا نربطه بقوة التركيز أو الأرق قصد الاطلاع أو الإتيان بما لا طاقة لنا به كما يحجو كثيرون. إنما نحتسيه لتسهيل الهضم وتنشيط الجسم.

وفي هذا الصدد، نعتقد ولا نظن أن لا صلة للمقاهي بالثقافة، كما لا علاقة بين القبعات الأسطوانية والنظارات الزائدة بالعقول النيرة. إنما أوردنا هذا الطرح لتصحيح أفكار مرسخة لدى فئات مختلفة في وقتنا الراهن، مُفادها أن لا فضاء يحلو فيه الفكر سوى المقهى، وأن من ارتدى القبعة الأسطوانية وجالس الصحاب بالمقهى مفكر بارز، بز غيره من الأنام، وقس على هذا.

اعلم -حفظك الله- أن الأقدمين ألفوا كتبا وصنفوا في علوم شتى في زمن سحيق جدا، ولا تزال هذه المؤلفات حيةً إلى يومنا هذا، ولم تؤلف بالمقاهي إبان تأليفها، إنما ألفت في مكاتب بسيطة، ومن لدن أعلام ألباء، ذاقوا مرارة البؤس والشقاء من غياب اللوازم، وسوء الأحوال، وغياب الاستقرار. ولكن اتسموا بغزارة الاطلاع، وبسداد الرأي، وبالاعتكاف، وحب العمل، والأناة.

وإذا نظرنا إلى المقاهي اليوم بعين متبصرة -إن كانت للقراء آذان مصغية طبعا- وجدناها فضاءات للتشويش لا التأليف، وفضاءات للإزعاج لا الإنتاج، وما يصاحب ذلك من دخان سجائر فئات أخرى، منهم “المثقفون” أنفسُهم، ومنهم دون ذلك. دون أن ننسى سموم المشروبات التي تقدم بهذه الفضاءات ويظن شاربوها أنها بلسم يحيي العظام وهي رميم.

تربية وتكوين

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م). ليلة الفاجعة كما عشتها...   في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة ا...