فنُّ الحبِّ..


أولا: كيف يبدأ الحبُّ؟

يبدأ الحب بالإعجاب أو بحادثة تثير الشفقة، أو تحرك رغبة. وبمجرد أن تتركز العاطفة في شخص ما، يأتي دور التفكير والخيال وخصوصا إذا كان الحبيب غائبا عن عينيه. فإذا تمكنت منه الفكرة فلن ينظر إليه إلا بعين الرضا، ولن يرى فيه إلا محاسنَ وأفضالا.

والحب في هذه المرحلة يغمره بسعادة لا نهائية؛ وكما يحتاج اللهيب الوقودَ كذلك يحتاج الحب التشجيعَ: ثناء، أو تشجيع، أو نظرة نافذة، أو بسمة حلوة، ... وغيرها. وقد يبدأ الحب عند بعض الناس بتيار جارف من الشك، والشك في ذاته يدعو إلى تأويل الكلام، وتحليل المعاني، وتفسير النظرات والحركات... وكلما زاد التحليل والتفسير رسخ الحب وتمكن. والتمتع أو الدلال يلهب الحب، ولكن يحذر الغلو فيه حتى لا تنقلب الآية فيصهر الحب ويقتله.

وتكتمل السعادة والهناء إذا وصل الحب درجةً تجعل كل محب يرى في حبيبه المثل الأعلى... لكن في هذ الدرجة من الحب لا تتعادل قوة العاطفة عند الطرفين؛ إذ تستمر قوة الحب في توهجها، لذا وجب علينا أن نفكر دائما في الوسائل التي نبقي بها على هذه العاطفة، وننميها في الحبيب المختار.


 ثانيا: الحبُّ بين الأمسِ واليومِ

في العصور القديمة في فجر التاريخ كان الرجل القوي يختطف المرأة التي يختارها، وقد يحدث أن تحب المرأة بطلها وفارسها الذي اختطفها لأنه اختارها دون سواها، ولأنه أصبح سيدها. ثم أعقب ذلك مرحلة أخرى أصبح فيها للمال والنفوذ الأثر نفسُه الذي كان للقوة الجسمانية والفروسية، وأصبح الرجل ليس في حاجة لاختطاف المرأة، بل في إمكانه أن يشتريها بماله ونفوذه.

ثم جاءت الديانات السماوية التي تنظم الزواج والعلاقات الزوجية وتضعها في قالبها الشرعي الذي يرضي الله رب العالمين، وتكفل للإنسان الحياة الكريمة، والعلاقة الكريمة، والعلاقة الإنسانية السليمة في الزواج. كما أوجبت على الرجل إحسان معاملته لزوجته؛ فهي إنسان له حقوقه كما عليه واجبات يجب أن يقدمها. والله سبحانه وتعالى بإيجابه هذه المعاملة بالحسنى والود بين الزوجين، فقد قوى ومتَّن وشائج الأسرة، وزرع الحب بين أعضائها.

ومن العوامل التي تجذب إلى الحب النبوغُ والشهرة، ولياقةُ الحديث وظرافته، وبطولة الألعاب الرياضية وإجادة فن من الفنون، ... وغيرها من وسائل الدعاية، والمحبة الداعية إلى التفاخر، ولا ننسى ضعف المرأة وشعورَها بهذا الضعف، ورغبتها الملحة في أن تكون في حماية رجل قوي، وهذا الاطمئنان هو الذي يقودها إلى السعي لأن تكون أما وتكون أسرة.

ومن وسائل الجاذبية في الحب أيضا المدحُ، والثناء، والغزل، والتغني بالمحاسن. كل هذا محبب للنفس البشرية، وما من رجل أو امرأة إلا وبهما مركب نقص، والإطراء والمديح خير علاج لمركبات النقص، وتستطيع المرأة العاقلة أن تغزو قلب الرجل بتشجيعه في عالمه وتهيئة أسباب الراحة الجسدية والنفسية له في بيئته. وكثيرا ما نرى نساء ذوات نصيب قليل في الحسن والجمال يفزن بقلوب الرجال وينتصرن على منافسات جميلات حسناوات لم يعرفن كيف يرضين الرجال وينسجمن معهم انسجاما روحيا، ويشاركنهم مشاعرهم وأحاسيسهم، وميولهم.

وعلى الرجل العاقل أن يراعي أعصاب المرأة التي يحبها؛ فلا يثيرها، وإذا جابهته عاصفة فليصبر ويتجلد حتى تمر بسلام، شأنه في ذلك شأن ذلك البحار الماهر الذي يتجلد أمام الزوبعة دون أن يفقد حبه وشغفه بالبحر.

وهذه عشر نصائح نقدمها للمحبين لكي يدوم الحب وتتقد جذوة ناره، ويفيض هناءً وسعادةً، وهي نصائح ووصايا تشكل عصارة تجارب عميقة، وهي:

1.   ابتعد عن مسببات الغيرة؛

2.   إذا عاتب أحدكما الآخر فبرفق ولين، وبالصراحة التي لا تؤلم؛

3.   تناسيا منغصات الماضي، ولا يفكر أحدكما الآخر بدفين الذكريات ومؤلمها؛

4.   اخلقا من حين لآخر مناسبات البعد قصير المدى، الذي تتخلله خطابات الشوق، والذي يعقبه اللقاء الحار؛

5.   غلفا حبكما بالخيال، لأن الحقيقة تجرد الحب من لذته وبهدته؛

6.   بقدر ما يحترم كل منكما الآخر بقدر ما يزداد حبه له؛

7.   ليلتمسْ كل منكما في أحضان الآخر الحنان قبل أن يلتمسَ الجنسَ؛

8.   اتركا للزمن حل المشكلات التي لا ينجح حبكما في حلها حتى لا تفسدا سعادتكما؛

9.   جددا دائما في مظاهر حياتكما حتى لا يتسرب إليها الضيق والملل، وبهما يضعف الحب؛

10.                     ألا يحصي كل واحد منكما أخطاء الآخر، والتسامح شروط ضروري لاستمرار المودة والحب.

 للتوسع، انظر: محمد رفعت: بناتنا ومشاكلهن الصحية؛ دار النجار، بيروت، ط. 1995، ص. ص. 160 - 162. 



 

أخطأنا معا، ولكن...!

 

أعلنت إدارة مدرسة خالد عن القيام برحلة مدرسية لتوعية متعلميها بأهمية المحافظة على البيئة. وقرأ خالدٌ الإعلان وقلبُه مفعم بالبهجة والسرور؛ إنه حدثٌ سيروح عن نفسه ويدرك من خلاله أهمية المحافظة على البيئة.

حل الصباحُ، واجتمع التلاميذُ بباب مدرستهم. وبعد دقائق، ها هي الحافة تقف أمامهم، فركب الجميع، وانطلقت الرحلة. كانت المسافة طويلةً، ولكن فرحةَ التلاميذ أنستهم طول المسافة؛ لقد استغلوا ساعات الطريق بأحاديثَ مختلفةٍ، منها الثنائية ومنها الجماعية. وكان خالد من التلاميذ المحبين للقصص خصوصا القصص الواقعية، وإذا تعلق الأمر بقصص الأنبياء فذاك حديث آخر. ولذلك كانت قصة يوسفَ بين يدي خالد، كما كانت قصص أخرى بين أيادي زملائه ممن يعشق القراءة.

وفي الرحلة تلميذ يدعى يوسف، وهو صديق خالد، وقد اتفق الاثنان قبل انطلاق الحافلة على أمر غير محمود، وفي الطريق قرر خالد تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

-       معلمي، لم يكن معنا يوسف. ربما تأخر عن موعد الانطلاق، أو ربما سقط من نافذة الحافلة ولم نتفطن إلى ذلك!

-       لا يا خالد، الكل حاضر.

-       انظر يا معلمي، إن مقعده شاغر!

-       يا للعجب!

توقفت الحافلة بأمر من المعلم، وتلاشى هرج الأحاديث الثنائية فجأة، وبدأت مشاعر الهلع على الوجوه، وبعد عد المشاركين تبين فعلا أن يوسفَ لم يكن بمقعده. يا للهول!

 وصار يوسف موضوعا للكلام والبحث على السواء، وتحولت متعة الرحلة من متعة إلى جحيم. ربط المعلم الاتصال بأبي يوسف، وأخبره أن الولد خرج في الوقت المناسب، ولم يتأخر عن موعد انطلاق الرحلة، ويوسف ابن رجل بسيط وليس كيوسف ابن يعقوب، وأي مكروه يصيبه فالويل للمعلم والمدير.

نزل الجميع. منهم من ينادي بأعلى صوته، ومنهم من يبكي، ومنهم من يفكر ويسأل: كيف ضاع يوسفُ ولم يتفطن له أحد؟! قرر السائق العودةَ حيث انطلق عله يعثر على يوسفَ أو أثر يقوده إليه.

وفي لحظة عودة الحافلة، أطلق خالد ضِحكة لفت بها انتباه الجميع، فخرج يوسف أسفل مقعده بالحافلة، وقد ارتدى بذلة شبيهة بلون أغطية مقاعد الحافلة، فضحك الصغار وغضب الكبار!

شعر خالد ويوسف أنهما خدعا الجميع بنجاح، وانطلقت الحافلة من جديد، وصار الحديثُ موحدا هذه المرة، لقن فيه المعلم خالدا ويوسفَ وزملاءَهم درسًا لا ينسى في اجتناب الكذب.

وصلت الحافلة الوجهة المقصودة، واستمتع التلاميذ بالرحلة كما استفادوا منها أيما استفادة. وفي المساء أعلن المعلم لحظة العودة، وأثناء الاستعداد لصعود الحافلة، تفطن خالد أن يوسفَ لم يكن معهم، وقال في نفسه: كيف أقنع معلمي الآن بأن صديقي لم يكن معنا؟ فقال للمعلم:

-       معلمي، إن يوسف لم يكن معنا!

-       يا خالد، ألم تستفد أي شيء في درسنا اليوم؟ وعلينا ان نصل مدينتنا في الوقت المناسب كما سطرنا في برنامج الرحلة.

-       نعم يا معلمي، لقد استفدتُ الكثيرَ.

-       لقد خدعتنا في الصباح، فكيف نثق بك في المساء؟!

-       ولكني يا معلمي أتحدث الآن بجد لا بهزل ولا خداع.

تبين بالفعل أن يوسفَ لم يكن بين رفاقه، ولم يكن متخفيا هذه المرة أسفل المقعد. وبعد محاولات عسيرة، وجدوا يوسفَ يتألم بعدما سقط من مرتفع فأصابه فدعٌ وجروح خفيفة في يده، وأسعفوه فورا، ثم نقلوه إلى الحافلة وغادروا المكان.

نظرت حكيمةُ في حال يوسفَ وقالت: "معلوم أن الخرجات المدرسية تصاحبها أحبانا أخطار، لذلك علينا ألا نفترق إذا خرجنا لرحلة أخرى" وقال خالد وقد تذكر خطأه: "تماما. معذرة معلمي، ومعذرة أحبتي، لقد خدعتكم بالكذب صباحا، وفشلت في إقناعكم بالحقيقة مساءً. ليتني لم أكذب لتصدقوا كلامي فورا حتى لا نتأخر عن إسعاف صديقنا يوسف". وقال يوسف متحسرا: "نعم. الكذب ملعون حقا. أخطأنا معا، ولكن" فقال الجميع: "ولكن ماذا؟ فرد يوسف وخالد وقد صارا حكيمين: "أخطأن معا، ولكن أدركنا قيمةَ الصدق، واستفدنا من هذا الموقف شيئا عظيما؛ فمنذ يومنا هذا، علينا أن نطبق العِبَرَ من قصص الأنبياء في حياتنا اليومية حتى نقوي إيماننا لا أن نخدع أحبتنا".



 

الطب يغدو أكثرَ مقاومةً للجراثيم

 

بوصول جينر إلى خريف عمره، برز بالساحة الطبية عَلَمٌ بارزٌ، سيبتكر أخيرا منهجا أكثر كفاحا في التعامل مع الجراثيم. هذا العلم هو لويس باستور Louis Pasteur  (1822 - 1895)، الكيميائي، والمبتكر العلمي الفرنسي الذي قلما يجهل اسمه. هو ذلك الرجل المدافع عن نظرية الجراثيم، والذي استطاع أن يطور معالجتَه الخاصةَ إلى تقنية تعريض الأطعمة والمشروبات إلى "إبادة"؛ وهي التقنية التي اعتقدها هو ومساعدُوه في جعل الطعام والشراب آمنين للناس قصد الاستهلاك.  

هذه العملية هي ما يعرف اليومَ بالبسترة، وتتطلب تسخين الشيء على درجة حرارة عالية لقتل جميع الكائنات الحية الدقيقة الكامنة داخله بما فيها البكتيريا والأنزيمات. وقد جاءت الفكرة وليدةَ ردِّ باستور على شكاوى مصانع الجعة التي تفسد قبل أوانها نتيجة تغذية البكتيريا على المكونات الحية التي تركت بالجعة بعد عملية التخمير.

ومن المثير للهزل أن الجعة الفاسدة يعاد ترويجها جنبا إلى جنب مع المزَر الفاتح الهندي IPA [1] بعد دخولها الحديث الحياة اليومية في مجال الخمر. وقد شكل الفساد الحاصل للجعة آنذاك مصدرَ قلق كبير للمنتجين في محاولتهم تقديم منتج ثابت ومستقر على الرفوف. وكم انتظر مستهلكو الجعة ذلك، ولكن حال مشكل البكتيريا المطروح دون تحقيق الأمر. ولهذا الدافع، شرع لويس باستور بقوة في طرح تقنيته التي تنص على أن الطعام يبقى مستقرا بموت البكتيريا. وهو ما مهَّدَ السبيل تماما لمنهج جديد في الإنتاج الغذائي الجماعي، عُرف بأسلوب “معالجة الأغذية”.

ومع أن زعمَ باستور الأكبر للشهرة لم يشمل الأطعمة، استطاع أن ينقذ صناعة الحرير بفرنسا عام 1865 بعدما تأثرت بغزو جرثومي مجهول فدمرها أيما تدمير. وللخِطة التي طورها باستور أخيرا في التصدي لتلك الأزمة الوبائية التي لم يشمل ضررُها كلَّ ديدان الحرير ما يثير الهزل من وقائعَ طريفةٍ.[2] ويبقى أن تراث باستور العلمي قائم على فكرة الإبادة الكلية للجراثيم من أجل حفظِ الصحة العامة.     

سيشتغل باستور أيضا في تطوير عددٍ من اللقاحات، بما في ذلك لقاحُه الأول ضد كوليرا الدجاج عام 1879، ولقاحات أخرى بعده، مثل لقاح ضد الجمرة الخبيثة، وجرثومة السل، والجدري، وداء الكلَب. وسيحصل باستور تقديرًا دوليا اعترافا بعلاجه الناجح للفرنسي جوزيف مايستر Joseph Meister  ذي التسع سنوات، بعدما نجح في علاجه من داء الكلَب نتيجةَ تعرضه لعضةِ كلب مسعور. وبعد مضي ثلاث سنوات، سيتولى مايستر رئاسة معهدَ باستور الخاص في باريس الذي افتُتح يوم الأربعاء 14 نونبر 1888.

هذه الإنجازات كلُّها ستساعد في بروز نهضة كبرى في نظرية الجراثيم سيما وأن الطب اهتم بفكرة الجراثيم اهتماما بالغا إلى حد الهوس. ويقر الاكتشاف الباستوري البارز على أن كلَّ “شيءٍ”معرضٍ للهواء الطلق يُعد وسطا يعج ببكتيريا مجهرية، والتي يمكن القضاء عليها بوساطة درجة حرارة عالية. وهو الأمر الذي سيغير تصورَ الناس للجراثيم والصحة العامة.

أثمرت أعمالُ باستور تغييرا ذا أهمية كبرى، تمثل في بسترة الحليبِ[3] المشهورة. وعلى الرُّغم من أمر استيعاب العملية استغرق بعض الوقت، إلا أن لها زخما كبيرا في أقطار عدة بالعالم، وهو ما دفعها لتغدوَ معيارَ معالجة الأغذية بعد باستور سيما بعد البروز المفاجئ لقضايا السلامة الغذائية نتيجةَ التصنيع.

قد يصدق القارئ، وقد لا يصدق أن الحليبَ لم يكن المنتجَ المستهدف من عملية البسترة كما يُطبق اليوم؛ ذلك أن معالجي الحليب لم يبدؤوا استخدامَها بشكل جماعي إلا بإدراكهم مقدراتها الكامنة حتى تتسنى لهم إطالة مدة صلاحية الحليب المنتج تجاريا، ومنع تخميره المبكر. وباشتمال العملية الحليب القذِر، فقد ساعدت كذلك على قتل العوامل التي تسبب أمراضا فتاكة مثل حمى التيفويد، والدفتيريا أو غيرها من الأمراض التي جاءت وليدة أنظمة الصرف الصحي الهشة.

وعلى الرُّغم من غزارة الإنتاج بهذه العملية اليوم، فإن التبني الواسع لتعقيم الحليب بهذه العملية لم يسلم من خصوم، أو بالأحرى في الولايات المتحدة الأمريكية. وبدافع الشكوك حول ما يحصل للحليب بوِساطة البسترة، وما قد يتم التستر عليه أثناءها، وُضعت هذه العملية في طرف خارجي هامشي حتى أواخر القرنِ التاسعَ عشرَ لما افتتح أولُ متجر رسمي للحليب المبستر بعدما كان بعض منتجي الحليب يقومون ببسترة سرية حتى يدومَ لهم الحليبُ مدة أطول على الرفوف، ويكبحوا انتشار عدوى الأمراض.

شكلت أواخرُ القرن التاسعَ عشرَ، وبداياتُ القرن العشرين فترة حرجة؛ حيث شهد العالم تحولا كبيرا في وجهات نظر معترف بها تاريخيا حول المرض، فبدأ المجتمع لأول مرة ينظر إلى الجراثيم والبكتيريا بشكل عام على أنها كائنات حية مضرة، مع أن أقطارا معينةً تهتم بالتخمير والزراعة باستخدام البكتيريا المفيدة من دون تضارب في الآراء.

السرُّ في الوسط أو البيئة لا البكتيريا

توجد البكتيريا كما نعلم في كل مكان حولنا، بله في دواخلنا. وقد تقدم العلم منذ القرنِ التاسعَ عشرَ إلى نقطة جعلتنا ندرك وجودَ نوعين من البكتيريا: نوع محمود مفيد، ونوع مذموم مضر، الشيء الذي فات تماما باستور ومساعديه؛ إذ نظروا جميعُهم إلي الجراثيم من منظور كونها كائنات مضرة فحسب. ولذلك قضوا ساعاتٍ لا تحصى في مختبراتهم، حيثُ ينكبون لابتكار طرائقَ وتطويرِ أخرى لا لشيء إلا للقضاء عليها.

وتبعا لهذا التصور الذي نظر إلى الجراثيم على أنها خطرٌ أو تهديدٌ، ذاعَ صيتُ ما يزعمه باستور بما في ذلك البسترة واللقاحات، وهو المنظور والتصورُ نفسُه الذي لا يزال سائدا في وقتنا الراهن. ولا غروَ أنَّ لكل منا أصدقاءَ، وأقاربَ، وجيرانًا، يخشون أن يعتريهم مرضٌ ما إذا تعرضوا لبكتيريا أو فيروسات تسبب المرض. لكن ما مسوغات هذا الخوف؟

على عكس ما تعلمه كلُّ فرد في المدرسة، ليست الجراثيم والفيروسات كلُّها مذمومةً ضارةً. وقد عاصرَ علماءُ آخرون باستور وخالفوه الرأيَ أيما خلاف حول نظرياته عن المرض. وادعوا بدورهم أن لهم علمًا يعضد ويثري أفكارَهم، فبدل أن تكون البكتيريا عاملا لاعتلال الإنسان،[4] زعموا أنها الوسط أو البيئة حيثُ تكسب موطئَ قَدَمٍ يحدد ما إذا كان الشخص يصاب أو لا يصاب بأمراض.

وعلى الرُّغم من مكانة باستور بوصفه عَلَما بارزا من كبار العلماء في العالم، ومؤسسا لعلم الأمصال،[5] فليس هذا العالم عمدةً عندما يتعلق الأمر بالتقدم المعقول لفهم آليات عمل جسم الإنسان. بل إن البطل الحقيقي في هذا السبيل - كما أشار كتاب “باستور منتحل كذاب! هُدِّمَتْ نظريةُ الجراثيم!”-[6] هو العالم الفرنسي بيير ج. أنطوان بيشامب (1816 - 1908) Pierre Jacques Antoine Béchamp.[7]

كان لبيير جاك أنطوان بيشامب -الذي عمل خلال فترة عمله دكتورا للكيمياء الطبية وعلم الصيدلة بجامعة مونبلييه (Montpellier)- الفهمُ الدقيقُ والسويُّ لكيفية عمل البكتيريا في التخمر؛ وهو التيار الفكري الذي فنَّده (رفضه) لويس باستور تماما لتأييد فكرة أن عملية التخمر عمليةٌ مذمومةٌ، وتحدث بشكل عفوي من دون سبب. وشكل هذا التقابل عاملا ذا أهمية بالغة؛ إذ شكل منطلقَ منظور كلٍّ من العالمين. الشيء الذي قاد إلى توجهين علميين متعارضين في تعاملهما مع الجراثيم بناءً على تصور كل منهما لطبيعتها.  

وقلما يُنسب الفضل إلى أ. بيشامب في عمله في هذا المجال الرئيس، وعلى الرُّغم من ذلك، كان منافسا علميا لباستور وأنصارِه. وبناءً على اختباراته العلمية واسعةِ النطاق، توصل إلى نتيجة كانت أكثرَ دقة مما توصل إليه باستور؛ إذ أدرك بيشامب أن ما يسمح بانتشارِ الجراثيم وتكاثرِها ليس هو الجراثيم عينُها، إنما الذي يسمح بذلك هو الأوساط التي تعيش بها هذه البكتيريا. كما أقر بأن نشوءَها مرتبط بهذه الأوساط، وليس الأمر بالعفوية والتلقائية كما يزعم باستور.

كان إدراك أ. بيشامب فهما دقيقا مضبوطا وأكثر دقة من تصور باستور؛ فقد أدرك أن الجراثيم كائنات متعددة الأشكال، ما يعني أنه يمكن لها أن تغيرَ الحجمَ والشكلَ بناءً على ظروف الوسط، بينما اعتقد باستور أن هذه الكائنات تظل ثابتة. لذلك ركز الأول على الوسط، في حين ركز الثاني على الجراثيم.

 ويقدم بيرسون Pearson أدلة كثيرةً قويةً دامغةً تثبت أن القائد العلمي الحقيقي خلال عصره كان هو بيشامب لا باستور، لما له من فهمٍ دقيقٍ لطبيعة البكتيريا. بيد أن باستور -الذي زعَم بيرسون نفسُه أنه نسخَ أعمال بيشامب وأفسدَها- كسب الشرفَ والفضلَ في معظم كتب التاريخ الحديث!

وقبل أن أخوض في سبب اعتقادي أن الأضواء سلطت على باستور، أحب أن أذكر رجلا آخرَ عززتْ إسهاماتُه العلمية عمل بيشامب بإعطاء العالم فهمًا أعمق لطبيعة الجراثيم. ويتعلق الأمر بالعالم الفرنسي كلود بيرنارد Claude Bernard[8] (1813 - 1878) الذي على الرُّغم من كونه عالما آخرَ من مُعاصري باستور، إلا أن أعماله لم تكن بعيدةً عن توجهه.

كان شأنُ بيشامب وبرنارد في دراسة الجراثيم خلال القرنِ التاسعَ عشرَ أشبهَ بشأن هولمز Holmes وواتسون Watson؛ ففي الوقت الذي كشف فيه بيشامب الشيءَ الكثيرَ عن الطبيعة الحقيقية للجراثيم أكثر مما كان يقع عليها الفهمُ من قبل، كان برنارد يدرس كيفَ تعمل الجراثيم في أوساط وبيئات متنوعة. ومن مكافآت برنارد على عمله، نجد على سبيل المثال، فهمَنا الحديث للتوازن الحمضي، وتأثيرات الوسط الحمضي أو القِلوي[9] على الكائنات الحية الدقيقة (المجهرية). وإلى برنارد صاحبِ قولة “يمثل الوسطُ كلَّ شيء، والجرثومة لا شيء” يعود الفضلُ في نشوء الطب التجريبي.  

وتعكس العبارة هذه زعمًا واعتقادًا تنكبَ كلَّ ما افترضه باستور حول الجراثيم. ومع ذلك فإن دقتَه (دقة الاعتقاد) في مجاوزة الأسلوب الأكثر تقدما في الطب الحديث لا تزال صامدةً أمام محك الزمن واختباره. وهو ما سنعرضه في كل مناحي مسار هذا الكتاب. وقد أقر برنادرد أن الجراثيم لا تغدو مضرةً مؤذيةً إلا إذا كان وسط عيشها يسمح لها بذلك. وأدرك الرجلُ نفسُه أنه إذا ما تمت المحافظة على هذا الوسط بحماية هذه الجراثيم حتى لا تحدث الضرر والأذى، كان الناس في غنى عن أيِّ قلق ينتج عن الخوف من التعرض لها.

أثمرت إعادة طرح نظرية الجراثيم لبلوغ الأفضل عنقودًا ضمَّت بوادره حبتين، مثلتهما جهودُ كلٍّ من بيشامب وبيرنارد، ورغم ذلك لم يحصل أي من العالِمين على الفضل التاريخي الذي يستحقه. بينما كسب باستور التقديرَ كلَّه في طرحه عملية البسترة على الرٌّغم مما صاحبَ هذه العملية من فهم معيب لطبيعة الجراثيم. غير أن باستور اعترف حقا وهو على فراش الموت أنه جانبَ الصواب؛ ذلك أن البيئة/ الوسط هو كل شيء، ولكن اعترافَه ذاك جاء بعد أن وقعت الفأس في الرأس.[10]  

يعد باستور من أعلام التيار الفكري العلمي المختلف تماما، ولم يكن الشخصَ الوحيدَ الذي غيرَ رأيه لاحقا بناء على تقدم العلوم. فهذا عالم ألماني ردولف فيرخوف  Rudolph Virchow (1821 - 1902)؛ رائدٌ آخرُ للطب التجريبي أمضى سنواتٍ طوالًا بألمانيا ثم ببروسيا خلال القرنِ التاسعَ عشرَ يشق الطريقَ لبروز مجال علم الأمراض الخلوية. وقد اعتقد في البداية أن الجراثيم كلَّها كائنات ضارة، وهو التصور الذي سار على نهجه كثيرونَ خلال عصره، ولكن ما تبقى من حياته المهنية عرف صحوةً علمية، حيث أقر بضرورة تغيير الرأي. يقول في هذا الصدد: “فلو أن لي استطاعةً لأعيش حياتي مرة أخرى، لكرستها كي أثبت أن الجراثيم تبحث عن الأنسجةِ المريضةِ ببيئتها، بدل أن تكون سببا وراء مرض تلك الأنسجة؛ ومثال ذلك أن البعوضَ تبحث عن ماء آسن، ولكنها ليست سببا في ركود البِركة”.

ولذلك أجمع فيرخوف، وبرنارد، وبيشامب على أن الجراثيم ضمنيا لا تشكل تهديدًا عندما تكون البيئة التي تصادف بها كائنا عضويا ما بيئة ملائمة سوية في التعامل معها. والأمر لا يتعلقُ بعدُ بنظامِ المناعة بوصفه العنصرَ المشكلَ للوسط الصحي، ولكن نتحدث عن النظام البيئي الداخلي للجسم، والسلامة الكلية المرتبطة بأشياءَ من قبيل التسمم الكيماوي، والحالة الغذائية.

قد يصدق القارئ، وقد لا يصدق أن نظام المناعة بالجسم يعمل بشكل آلي للتعبير عن نوع من الدعم والمساندة عندما يخذل الوسط البيئي الداخلي في التصدي للجراثيم، وهو تعبير يمثل استهلالَ دفاعَ الجسم. فبعد أن تصابَ أنسجةُ الحجيرة (الخلية)، يحصل جلبٌ للمزيد من الجراثيم، وبذلك يستجيب نظامُ المناعة لطردها وصدها بوسائل دفاعه، فيفلح أحيانا كما يخفق أحيانا أخرى.[11]

وبناءً على هذا، يُعد الاعتناء بالوسط البيئي الداخلي عمدةً وأمرا أوليا، ويبقى تعزيزُ نظامِ المناعة أمرًا ثانيا، ومنه ينبغي ألا يكون الاهتمام البالغ بالجراثيم من الأوليات، ومع ذلك هذا ما نحن عليه بمجتمعنا اليوم. وتبقى فرضيةُ باستور الخاطئةُ حول كون الجراثيم سببَ الأمراض النموذجَ أو المعيارَ الذي عضَّ عليه الطبُّ الحديث بالنواجذ في العلاج.

إن أهميةَ ذلك من منظور علاج السرطان والوقاية منه -كما سنكشف- أهميةٌ بالغةٌ؛ ذلك أن المرضى اليوم ليسوا على دراية بأهمية الاعتناء بالوسط الصحي من أجل وظيفة مناعة مثلى. وفي أغلب الأحوال، يخبرون بأن السرطانَ مجرد مقامرة، وأن الذين أصيبوا به ليس لهم خيارٌ سوى الخضوع لعلاجات مكثفة تحاول - على نهج باستور في تعامله مع الجراثيم تماما- أن تدمرَ الخلايا السرطانية بمواد سامةٍ بدل أن تصلحَ المحيطَ المتضرر من اختراقها.  

ثمة قصورٌ آخرُ متأصلٌ في نظرية الجراثيم عند باستور، مرده عدم التمييز بين البكتيريا الضارة وتلك المفيدة. والعلم الحديث –على الرُّغم من أوجه قصوره الجَمَّة- يوشك أخيرا على استيعاب دقيقٍ بأن هذه البكتيريا المفيدةَ -التي غالبا ما يشير إليها باسم البروبيوتيك- عمدةٌ في مناعةٍ قويةٍ. وبإمكان المرء أن يقول إن البروبيوتيك عنصرٌ جوهري في منظر الوسط.

ويؤكد الطبيب الأمريكي الدكتور ميشيل لام Michael Lam[12] -بوصفه باحثا بارزًا في مجال الوسط البيولوجي- أن البكتيريا المفيدة (البروبيوتيك) ضروريةٌ للحفاظ على ما وصفه “بتوازن التفاعل الدقيق/المجهري بين آلاف الملايين من البكتيريا المفيدة والبكتيريا الضارة/ الممرضة”. ولعلَّ الأمعاءَ حلقةُ وصلٍ مهمةٌ في نظام الوسط البيئي للجسم،[13] وكثيرا ما تشكل نقطة ولوج عبرها يكسبُ السرطانُ موطئَ قدم بالبدن.

كما يؤكد الدكتور م. لام نفسُه أهميةَ الحفاظ على القلوية الوظيفية، ذلك أن الخلايا السرطانية تزدهر في البيئة القِلوية.[14] ويتماشى منهجه الطبي حقا ونظرية وسطية الجراثيم التي تشبث بها كل من فيرخوف، وبرنارد، وبيشامب، وهو المنهجُ نفسُه الذي سار على نهجه في علاج السرطان عديدٌ من العلاجات “البديلة” والتكميلية، وسنكشفها في فصولٍ لاحقةٍ من هذا الكتاب.

لا يزال الطب الغربي في معظمه مرتبطا أيما ارتباط بفهمٍ غير سوي للجراثيم، وذلك برفض عنصرِ الوسط البيئي وإقصائه في مجال الطب على حساب الصحة العامة. وقد خلقَ هذا الفهم لملايين الناس مقاساة هُم في غنى عنها، بل ضحايا نتيجة العلاجات الفاشلة التي تستهدف الجراثيم، ولعقاقير السرطان الصيدلية من هذه العلاجات نصيبٌ ليس بالقليل.



[1] . نوع من الجعة يصنع بطريقة دافئة نسبياً، فتعطي مشروباً له قوام، حلو المذاق، له نكهة الفاكهة. يصنع المزر عادة من نقيع الحبوب كالشعير ومن حشيشة الدينار (الهوبلون). وللمزر الفاتح الهندي تاريخ طويل في الولايات المتحدة وكندا كذلك، وتقدمه مخمرات كثيرة هناك بطريقتها. ويمكن التوسع في نسبة تسمية هذا النوع بهذا الاسم باطلاع تاريخ الخمور والجعة منها على وجه الخصوص.

[2] . من هذه الطرائف أنه حين طلب جان باتيست دوما (أستاذ قديم لباستور) عام 1865 من باستور رئاسةَ لجنة علمية لاستقصاء ذلك الوباء الذي كان يدمر صناعة الحرير في جنوب فرنسا، أجابه قائلا: أرجو منك أن تأخذ بعين الاعتبار أنني لم ألمس دودة حرير قطُّ في حياتي. ولم يمضِ شهرٌ واحدٌ حتى لمس باستور العديد من الديدان، بل وبدأ تحقيقا واسعَ النطاق حول أسباب الوباء. 

[3] . البسترة: Pasteurization هي عملية تعقيم الحليب بقتل البكتيريا المجهرية الكامنة به. وسميت بهذا الاسم نسبة إلى اسم مبتكرها (باستور).  

[4]. هكذا تصورها بلويس باستور Louis Pasteur ومساعدوه وأنصار نظرياته.

[5] . علم يعنى بدراسة سوائل الجسم عن طريق البحث في تكوين بلازما الدم واحتوائه على أجسام مضادة، أو مولدات الضد، والتفاعلات التي تحصل بينها.

[6] . كتاب ألفه أحد خصوم باستور، هو الدكتور ر. ب. بيرسون R. B. Pearson .

[7] . “باستور منتحل كذاب! هُدِّمَتْ نظرية الجراثيم!” عنوان يمثل خيرَ دليل على صراع علمي قوي بين دكتورين بارزين. وفي البناء للمجهول (هُدِّمَتْ نظرية الجراثيم) وفي صفتَي “منتحِل” و“كذاب” ما يعكس تخسيس أعمال باستور، وفي صدارتها نظرية الجراثيم.

[8] . عالم فرنسي شهير. عالم وظائف الأعضاء. ومؤسس المدرسة التجريبية العلمية.  

[9] . صفة لكل مادة لها خواصُّ القَلْي.

[10] . كناية عن مجانبة باستور الصوابَ في نظرية الجراثيم التي دافع عنها طيلة حياته العملية بالمختبرات حيث قضى ساعات لا تحصى. وكناية كذلك عن سوء الفهم الذي خلفه بعد موته.

[11] . هناك أنواع من الجراثيم والفيروسات التي تخدع جهاز المناعة. ومثاله جرثومة السل (Tuberculosis) التي تدخل عن طريق الهضم أو التنفس فتحاور الكريات البيض، وتداورها لتهرب فتستوطن في عظم تنخره أو في رئة فتعبث بها. وللتوسع، انظر: 

الدكتور صبري القباني: طبيبك معك؛ دار العلم للملايين، بساط بيروت، ط.21، 1986، ص. 259 (بتصرف).

[12]. دكتوراه في الطب، وماستر في الصحة العامة. وهو طبيب معتمد لدى المجلس الأمريكي للطب التجديدي ومكافحة الشيخوخة. 

[13]. إن جزءا كبيرا من نظام مناعة الجسم مرتبط بالأمعاء. وقد سبقت الإشارة إلى أن ضرورة الاعتناء بالوسط البيئي الداخلي باعتباره عمدةً في التصدي للجراثيم الممرضة.

[14] . سبق الإشارة إلى هذه الصفة بالإحالة رقم 49. وعموما يراد بالبيئة القلوية كل وسط يضم مركّباتٍ كيماويّةً لها خواصّ قاعديّة، وتتّحد بالأحماض لتكوِّن أملاحًا. والمعادن التي تدخل في تركيبها إمّا معادن قلويّة كالصوديوم والبوتاسيوم وإمّا معادن قلويّة ترابيّة كالكالسيوم.

تربية وتكوين

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م). ليلة الفاجعة كما عشتها...   في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة ا...