دانيال ولينغام

ما سبب نفور المتعلمين من المدرسة؟

العقل لم يخلق للتفكير!

 

أعرف كثيرا من المدرسين ولجوا مهنة التدريس من حبهم وشغفهم بالمدرسة والمتعلمين. وكانت رغبتهم جعلَ هؤلاء المتعلمين يشعرون بالإحساس ذاتِه في تعلمهمولا غرو أن يأسا يصيبهم عندما يجدون بعض متعلميهم لا يطمئن إلى المدرسة كثيرا، مما يجعلهم في مواجهة عراقيل لاستمالتهم. ومن هذا المنطلق، نتساءل: لِـمَ يصعب جعل المدرسة فضاءً ممتعا للتلاميذ؟

خلافا للاعتقاد الشائع، فالعقل لم يخلق للتفكير إنما خلق ليغني صاحبه عن التفكير؛ إذ العقل في حقيقة الأمر ليس فعالا في ذلك، لأن التفكير عمليةٌ بطيئةٌ وغير فعالة. وعلى الرُّغم من ذلك، يتمتع الناس بالعمل الذهني إذا كان ناجحا موفَّقا، فالناس يحبذون حل المشاكل، ولكن ليس تلك المشاكل غير قابلة للحل. فإذا كان العمل المدرسي دائما صعبا جدا على المتعلم، فلا غرابة في عدم إعجابه بالمدرسة. ويستنير هذا المقال بمبدإ معرفي مُفاده: مِن طبع الناس محبةُ الاستطلاع، ولكنهم ليسوا مفكرين سويين، بل يجتنبون التفكير ما لم تكن الظروف المعرفية سوية. ومضمون هذا المبدإ أنه ينبغي على المدرسين إعادة النظر في كيفية تشجيع المتعلمين على التفكير للرفع من إمكانية حصولهم الإقبالَ الممتعَ وليدَ التفكيرِ الناجح.

ما جوهر كينونة الإنسان؟ وما الذي يميزه عن باقي الكائنات؟ يجيب كثيرون بقدرتنا على تسويغ طيران الطيور، وسباحة السمك، وتفكير الإنسان (نعني: القدرة على حل مشكلات/ قراءة أمر معقد/ القيام بأي عمل ذهني يتطلب مجهودا/ ... إلخ). ونقتبس كلاما لــــشيكسبير Shakespeare  حين أشاد في "هاملت" بهذه القدرة: "يا له من نموذج عمل رجل! كم هو نبيل في سداد الرأي!" غير أنه وبعد فترة من الزمن بنحو ثلاثة قرون، طرح هنري فورد Henry FORD   تصورا حول التفكير بشكل هزلي قائلا: "ليس ثمة أصعبُ عمل من التفكير، ويرجح أن تكون هذه الصعوبة الدافع وراء عدم مشاركة بعض الناس فيه"، ولكل منهما رأيه.

ويجيد الإنسان بعض أنماط التفكير، سيما بالمقارنة مع باقي المخلوقات، غير أننا لا نمارس هذه القدرة بشكل منتظم. وسيضيف الباحثون في علوم المعرفة تصورا مغايرا، فلا يفكر الإنسان كثيرا؛ إذ لم تخلق أدمغتنا للتفكير، إنما خلقت لتغنينا عن هذه العملية. ثم إن التفكير - كما أشرنا مع فورد - ليس عملية مجهدةً فحسب، ولكنه عملية بطيئة وغير فعال أيضا.

يخدم الدماغ البشري غاياتٍ عدة، وليس التفكير أمثلها، ثم إنه (نعني الدماغ) يدير جملة من العمليات من قبيل الرؤية، والحركة وغيرها، وهي وظائف تتم بآليات أكثر فاعلية وكفاءة من قدرتنا على التفكير. وليس من قبيل المصادفة أن يكرس معظمُ حالات الدماغ لهذه الوظائف. وثمة حاجة للقوة الذهنية الإضافية لأن الرؤية في حقيقة الأمر أكثر صعوبة من لعبة الشطرنج أو حل عمليات حسابية معقدة.

وإذا قورن التفكير بالقدرة على الرؤية والحركة، يبدو التفكير بطيئا، ومجهدا، وغامضا. ولإدراك مرد هذا القول، يمكن الوقوف بالوضعية- المشكلة الآتية:

في غرفة فارغة شمعةٌ، وبعضُ عيدان الكبريت، وعلبةُ مسامير، الهدف حصولُ شمعة موقَدة على نحو خمسة أقدام عن الأرض. ستحاول تذويب قاعدة الشمعة وتلصقها بالجدار، ولكنها عملية غير فعالة، فما السبيل لحصول هذه الشمعة الموقدة على هذا النحو من دون الإمساك بها؟[1]   

عشرون دقيقة هي المدة القصوى المعتادة الممنوحة لحل هذه الوضعية- المشكلة، وقليل مَن استطاع حلها خلال هذا الغلاف الزمني، إلا أنه بمجرد سماع طريقة حلها، تبدو مشكلةً غير عويصة بشكل كبير. إذا يمكن تفريغ المسامير من الصندوق، وإلصاقه بالجدار، واستخدامه كمنصة للشمعة.

توضح هذه الوضعية- المشكلة ثلاثَ خصائصَ يتسم بها التفكير: أولها، البطء؛ فالنظام البصري يطرد بشكل فوري في مشهد مركب، ومثال ذلك عندما يتم ولوج فناء بيت أحد الأصدقاء؛ حيث بؤرة التفكير: "هنالك شيء ما أخضر، قد يكون عشبا، وقد يكون غطاءً معينا أو غيره، وما ذاك الشيء البني العتيق المثبت هناك؟ لعله سياج"؛ ففي المشهد كله، نعاين عناصر عدة متباينة: فضاء أخضر، وسياج، ومشتل أزهار، وشرفة المعاينة، ... بلمحة واحدة. أما نظام التفكير فلا يقوم بحل مشكلة ما على النحو الذي يأخذ به النظام البصري مشهدًا مرئيًا.

وثاني سمات التفكير الإجهادُ؛ ويكفي القول إنه عملية تتطلب تركيزا. ثم إنه يمكن القيام بمهام أخرى أثناء مشاهدة شيء ما، ولكن لا يمكن التفكير في شيء آخر أثناء العمل على حل مشكلة معينة.

أما الخاصية الثالثة للتفكير فهي الالتباس والتشويش؛ ذلك أن النظام البصري يصيب، وقلما يخطئ، وإذا حدث أنه لم يصب، فعادةً ما يعتقد الناظر أنه يرى شيئًا مشابهًا لما هو موجود فعلاً، ومنه فهو أقرب إلى الصواب إن لم يكن عليه تماما. أما نظام التفكير فقد لا يجعل صاحبه قريبا إلى الصواب، وقد يكون حله مشكلةً ما بعيدا عن الصواب. وقد لا يهتدي نظام التفكير هذا إلى حل البتة، وهو ما حصل فعلا مع كثيرين عندما حاولوا حل الوضعية المشكلة المشار إليها آنفا.

إذا كان جميعنا لا يجيد عملية التفكير، فكيف يمكن لكل فرد إدامة عمله أو تدبير ماله؟ وكيف يمكن للمدرس (ة) اتخاذ مئات القرارات اللازمة طيلة يومه؟ والإجابة: عندما نعتمد الذاكرة وتغنينا عن عملية التفكير. فمعظم المشكلات التي تواجهنا هي المشكلات عينُها التي واجهتنا من قبل، لذا يقترن حل هذه المشكلات بحلول سابقاتها.



[1] . انظر:
Karl DUNCKER, «On Problem-Solving » Psychological Monographs 58, no.5 (1945) : 113. 

 



 

                                        مصادفةٌ رائعةٌ

 

 

فضَّل نصر الله أن يقضي عطلته القصيرة بعيدا عن ضوضاء المدينة، فخرج مع عائلته، وكان الفصل ربيعا، والجو معتدلا، والربيع أحب الفصول إلى نفس نصر الله، فكان من الطبيعي أن يشعر بالبهجة والسرور. وقرر نصر الله ألا تخلو رحلتُه من القراءة، ولذلك أخذ معه قصصَه، وطلب من إخوته ألا ينسوا قصصهم المفضلة.

انطلقت الرحلة في جو هادئ، وكان الزمن صباحا، وركبت الأم في المقعد الأمامي بجانب الأب، بينما ركب نصر الله وأختُه في المقاعد الخلفية، وفور انطلاق السيارة لفت نصر الله انتباه شقيقته فخاطبها قائلا:

-      سعاد، اربطي حزام السلامة.

-      يا نصر الله، إننا داخل المدينة، لا داعي من ربط حزام السلامة الآن حتى نغادر المدينة، ونقترب نقطة وجود رجال الدرك!

استمتع الأبوان بحوار ابنيهما، ولكنهما تظاهرا بعدم سماعه، ولذلك لم ينهرا الابنة كما لم يشجعا الابن.

وتصل السيارة منطقةً ريفيةً لم يكن بها قرب الطريق سوى منزلٍ وحيدٍ، هناك يصيبها عطب لم يدرِ الأب سببه، فنزل الأب ونزل معه نصر الله، ورفع الأب غطاء المحرك، فشرع يتفحص محرك السيارة بعناية، وكان نصر الله يمده بالمفاتيح التي يرغب فيها. وخلال تلك المدة، خرج من تلك الدار شيخُ، على وجهه ملامح الوقار والحكمة. استفسرهم عن المشكلة، وأخبروه أن عطبا ما أصاب سيارتهم. فطمأن الشيخ الأبَ، ورحب بعائلته كافة، وقال: "هو عطب، ولكنه من محاسن المصادفات؛ إن ابني رجل ميكانيكي، لذا لا تفكروا في عطب السيارة، ولا في المسافة التي تفصلكم عن الوجهة المقصودة، ادخلوا بيتي هذا لترتاحوا قليلا، وكلوا مما رزقكم الله".

دخلت العائلة بيتا ريفيا بسيطا، كل أرجائه هدوء وسكينة، ومما زاد من فرحة نصر الله وأخته أن أحفاد الشيخ جاؤوا بدورهم إلى تلك القرية لزيارة جدهم وقضاء عطلتهم بها، فكان عطب السيارة مناسبة ليتعرف الصغيران على صغار آخرين، ويكتشفا محيطهما الريفي. لاحظ نصر الله بحوزة الأحفاد ألعابا جميلةً، وكان أغلبها شاحنات مصنوعة بدقة، وسيارات من مختلف الأحجام، منها ما يعمل بجهاز تحكم عن بعد، ومنها ما يحتاج الدفع اليدوي، فسأل أحد الأحفاد:

-      لماذا كثرت الشاحنات والسيارات في ألعابكم؟

-      حاول ان تكتشف السر يا نصر الله.

-      ربما لأن أباكم ميكانيكي، كما أخبر جدكم أبي، فيقتني لكم ألعابا ذات علاقة بمهنته.

-      صحيح، كما أننا نأتي إلى هذه القرية في عطلنا دائما، ولا نحب أن نأتي بأجهزة حديثة كالهواتف الخلوية وغيرها من أدوات التكنولوجيا الحديثة، ونرى أن هذه الألعاب أفضل بكثير.

-      لماذا؟

-      لأن الأجهزة التكنولوجية تسرق الوقت من مستعمليها، وتستنزف الوقت، وتفسد الترويح عن النفس خصوصا في العطل.

-      ما أروعك يا صديقي! هلا خرجتم معنا للاستمتاع بها قليلا؟

-      نعم، بكل سرور.

سُمع حوار الصغار من لدن الكبار، ولم يُسمع حوار الكبار من لدن الصغار، فكان حوار الكبار حول ظروف الرحلة، ووجهتها، وأسباب عطب السيارة، ومصائب الزمن، وظروف الحياة، وكان حوار الصغار حول الألعاب وأنواعها، وسر كثرة هذا دون ذاك بعيدا عن خطوب الحياة.

اتصل الشيخ الحكيم بابنه الميكانيكي، فحضر وتعرف على عائلة نصر الله، وأصلح عطب السيارة، ثم تناول الضيوف ما لذ وطاب من طعام، وشكروا الشيخ على حسن الضيافة. وها هو حوار مشترك هذه المرة حين قالت سعاد:

-      ألا تشعر بالملل يا عمي وأنت وحيد بهذا البيت؟

-      لا يا بنيتي، انظري إلى خزانتي، إنها خزانة غنية بالكتب، وحين أقرأ هذه الكتب أشعر أني أقعد مع كتابها؛ فكما يؤنس الإنسان أخاه الإنسان، يؤنس الكتابُ صاحبه الإنسان.

-      صدقتَ يا عمي، الكتب مؤنسة حقا. ما أروع خزانتَك حقا! لاحظ، بدورنا نحمل معنا كتبا كثيرة، وأغلبها قصص مفضلة لدينا، نقرأها في أوقات فراغنا.

-      أحسنت يا بنيتي، كما أن أحفادي يأتون في كل عطلة، وأترك الكتب بعض الأيام لأشاركهم فرحتهم، كما شاركتموني فرحتكم اليوم.

-      شكرا يا عمي من أعماق قلوبنا: لقد أركمتنا، وأصلح لنا ابنك السيارة، واستمتعنا مع أحفادك كثيرا، واستفدنا من كلامك الكثير. يا لها من مصادفة رائعة! فواصلت العائلة الرحلة بنجاح.

 

جزء من سيرتي الذاتية



ألفتُ أن أوظفَ ضمير المتكلم الجمع في كتاباتي تواضعا، ولكن تعلق الأمر هذه المرة بالكتابة في جنس أدبي حكائي، فاقتضى التحرير أن أستبدل ضمير المتكلم المفرد بضمير المتكلم الجمع[1] لأن طبيعة الكتابة في هذا الجنس الأدبي فرضت علي أن أكون كاتبا عارضا ومعروضا، واصفا وموصوفا في الآن نفسِه. 

وضعتني أمي حفظها الله وطهرها وضعا طبيعيا، وكان ذلك ليلة الخميس في الثالث والعشرين من ربيع الأول عامَ ستة وأربعمائة وألف (23 ربيع الأول 1406) موافق خامس دجنبــــــــر عــــام خمسة وثمانيـن وتسعمـائة وألف (05 دجنبر 1985)، وكان ذلك أواخر فصل الخريف، وبدايات فصل الشتاء. لم أولد في المشفى ولكن ولدتُ في بيتنا وسط أسرة مسلمة مغربية سوسية،[2] بسيطة ومحافظة، من عائلة كبيرة ببلدة ريفية تسمى أشبارو، من النفوذ الترابي لإقليم تارودانت. وكنت الابنَ الثالث بعد أخوين، ثم ازدادت بعدي أختان: الأولى ترزق، يسر الله أمورَها، والثانية انتقلت إلى جوار ربها من إصابتها الشديدة بالحصبة بالبلدة سنة 1997، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل لحدَها روضةً من رياض الجنة. كان الوسطُ المذكورُ قليلَ العلم، ولكنه كثيرُ الحشمة والوقار، فليس الوسط دائما مقياسَ التحضر وربح الرهان في هذه الحياة؛ فقد يأتي أكبر شر من أكبر خير، ولنا في نبي الله نوح وابنه العبرة الكبرى: كان نوح أكبرَ داعية، ولكنه أنجب ابنا كافرا جحد النعمة وكان من المغرقين.  كما قد يعاشر أكبرُ شر أكبرَ خير، ولنا في الحياة الزوجية لفرعون وزوجه الدليلُ الدامغ: كان فرعون أكبر طاغية، ولكنه عاش مع زوجة مؤمنة صالحة. أغرق الله فرعون، ولكن أسية ظفرت بنعمة الإيمان فنجاها الله من عمله وكيده وجبروته. 

ليست ببلدتي طواغيت فراعنة، ولا جبابرة، إنما أتيتُ بهذا التقابل لأبين أن البارئ يهب الحكمة لمن يشاء بصرف النظر عن بيئته، ومعاشريه، وأنصاره، وأصدقائه، وأهله، وبنيه. وهكذا آمنتُ وسأظل. بهذه البلدة قضيتُ طفولةً بسيطة كبساطتها، لم أظفر بنصيب وافر مما ينعته كثيرون اليومَ بـــ“عمدة” تنمية الجانب الحسي الحركي لدى الطفل، أعني هذه الألعاب وهذه اللوازم التي اقتُبست من النظام الغربي الذي لا وقت فيه للأم للرعاية كما لا وقت فيه للأب للتثقيف. ولكن ظفرتُ بنعمة كبرى لم يحظَ بها جلُّ أبناء أهل الحضر، هي احتكاكي بالطبيعة الاحتكاك المباشر: سهولها وجبالها، تربتها وحقولها، دوابها وسبل استخدامها: حرث، وزرع، وحصاد، ودرس، وغيرها من أشغال فلاحية رغم قلة المياه بالقرية. تلك النعمة التي نفعتني نفعا عظيما ولا تزال؛ فلم أغب عن الحقول وأنا صغير ينطق الشينَ سينا وينطق الغين عَينا. وخلال تلك المرحلة لا أشارك العائلةَ الأعمالَ بالحقول، إنما كنتُ عضوا مزعجا بها كغيري من صغار القرية: صراخٌ وعويلٌ من أتفه الأمور، فلا أنا تركتهم يعملون ولا هم أدركوا ما أرغب فيه لأكف عن الصراخ ويستأنفوا أعمالهم. 

لم أكن من الرضع الذين يمتصون هذه المنتجات التي يسميها كثيرون اليومَ الحليب وما هي بحليب، إنما استفدت من رضاعة طبيعية وأحمد الله على ذلك. وعلى الرغم من ذلك، كنتُ شَخْتَ الخِلقة (نحيفا) ولا أزال كذلك، وأفتخر بذلك لأن لي مسوغاتٍ علمية وطبية عدة سيكشفها القارئ بتتبع محطات حياتي في هذا الكتاب. وعموما قد تكون وراء تلك النحافة -العادية بالطبع- في تلك المرحلة عواملُ كثيرة، إما لكوني الابن الثالث، أو من علة أمي (حصى الكلي) التي كلفتها الشيء الكثير ولا تزال. ومهما يكن، هكذا وُلدتُ، ولا يقاس المرء بالجسد، ولكن يقاس بأصغريه: الفؤاد واللسان. وكنت في الصِّبا أصابُ بضربٍ من الإغماء غريبٍ؛ فبمجرد دفعي من لدن أحد الأخوين- ولو كان الدفع هزلًا- أسقُطُ أرضا فاقدًا الوعيَ، أما إذا نُزعَ مني شيءٌ مهمٌّ بقسوة فذاك حديث آخر؛ فقد يغمى علي ساعات، بل يصل الأمر إلى وجْدٍ وهَمٍّ واضطرابٍ حتى يظن الأب والأم أني فارقت الحياةَ، ومن لا يشعر بذلك إذا ما أصاب ذريتَه مكروه؟

وفي مركز جماعتنا تافنكَولت رجلٌ يُدعى سي إبراهيم، وهو معالج بالطرائق التقليدية وخصوصا جبر الكسور وعلل أخرى مثل الفدع ومشاكل اليافوخ عند الصغار نتيجة بعض العوامل التي تؤثر فيهم فيشكون عللا برؤوسهم. هذا الرجل يمثل رحمه الله خلال عصرهِ أحد ألباء جماعة تافنكَولت، وقد قمش[3] الاحترافَ والمهارة والدقةَ في مجال اهتمامه. وكثيرا ما حُملتُ إليه وأنا صغيرٌ لأستفيد من علاج على مستوى الرأس حتى أتخلص من أخلاط رديئة تعكر دورتي الدموية وتسبب لي مشاكل في رأسي الصغير. كان علاجه رحمه الله ضربا من الطب الذي يحتاج الدقة والحرص الشديد، فلا يمكن أن يقوم به إلا طبيب[4] محنك. والحق يقال، حسم الله عني العلة منذ زيارته سيما وأن الأسلوب العلاجي المعتمد من لدن الرجل أسلوب طبيعي، ويمكن عده ضمن الأدوية المفردة، ولي طباع لا تقبل فعلا إلا الدواء المفرد، ولا يجديها الدواء المركب أي نفع. ولنا في الطب وقفات أخرى طويلة، كما لنا مع هذا الرجل في مراحل التعليم الإعدادي وقائعُ أخرى نحكيها بتفصيل لاحقا. 

هذا هو العيب الصحي الذي لزم طفولتي بضع سنين، ولكن في المقابل لم تعرف عللٌ كثيرة سبيلا إلى صحتي، والأمر العجيب في ذلك أن إخواني لم يسلموا من الحصبة[5] كما لم يسلموا من السعال الديكي زمن عرفتهما البلدة، وكنتُ حينها أراقبهم بل أقيل[6] بينهم وهم يسعلون إلى أن يلطخوا ملابسي بقيهم فأستيقظ مذعورا باكيا حينا أو مشفقا حينا آخر رغم صغر سني. ومعلوم أن مرضي الحصبة والسعال الديكي علل معدية خطيرة، قد تنقل عن طريق مصافحة المصاب دون معاشرته. وسلمت منها كما سلم الخليل من نار قومه.

هكذا كانت طفولتي، أسعدنا فيها السعيد وأقلقنا فيها التعيس. ولا بد أن وقائعَ كثيرةً مرت قبل أن أدرك ما يدور حولي، سيما السنوات الست الأولى من حياتي قبل التحاقي بالمدرسة في سن السابعة بعد محطات عابرة بالكُتَّاب في البلدة حيث لم يكن التعليم تعليما وظيفيا، إنما كان تعليما طغت عليه أساليبُ “عقيمة” لأسباب عدة، أهمها الطرائق النمطية المعتمدة به، ومنها عدم استقرار الفقهاء الذين يتولون تحفيظ صبيان القرية القرآن، وكذا عدم وعي فئة ليست بالقليلة بالمجتمع بأهمية حفظ القرآن وتعلم العبادات والفرائض وغيرها. ومهما يكن، ليس بالقرية كتابا كما قد يتصور القارئ، ولكن لا شيء يمنع تحصيل العلم إذا تسلح المرء بعزيمة وإرادة قويتين.

لم ألتحق بالكُتَّاب قبل بلوغ سن المدرسة، ولكني ألتحق به في كل عطلة صيفية خلال مراحل التعليم الابتدائي، ولنا فيه وقائعُ جمةٌ، منها الطريف ومنها التليد. ونسردها في حينها. ولكن التحقت مباشرة بالمدرسة لما بلغتُ سبع سنوات؛ السن القانوني آنذاك. ولا تزال غُرَّةُ شتنبر 1992 - 1993 راسخةً في ذهني، حيث نهتني أمي وأنا أمدها بماء إضافي داخل حمامِ مسكننا البسيط ألا أخرج حتى أستحم. حينها أخبرتني أن عمي جزاه الله خيرا سيرافقني إلى الدائرة الحضرية/ مدينة أولاد برحيل حتى نوفر الصور الفوتوغرافية ونقتنيَ كلَّ ما أراهُ مناسبا من حاجيات بما فيها الملابس الجديدة التي تسعد قلبي وتشوقني أكثر للالتحاق بالمدرسة. لم يكن الخبر خبرا مشوشا، إنما كان خبرا جر تفكيري إلى تغيير جديد سيعتري حياتي، ثم إن تمثل المدرسة سوي بذهني لأني لي أخا وهو شقيقي الأكبر يحكي لنا تفاصيلَ الحياة الجديدة للأطفال هناك. ثم إن لي حدسا قويا بأن المدرسة فضاء لتعلم أمور محمودة تعضد المرء في فن الحياة، وهكذا ألفيتها وسأظل.

 ومن لا يتذكر من جيلنا -ولن أسميه الذهبي كما يُتداول، لأن كل الأجيال ذهبية إذا ما عرفت ما لها وما عليها- تلكَ البذلةَ السوداء ذات الخطوط العريضة، وبها جهة الصدر العلامة التجارية “بوص” - Boss. كانت مُسرَّدةً تناسب الصور الفوتوغرافية رغم بساطتها، وكانت من النوع المتين الأنسب لبرد الشتاء. هي البذلة عينُها التي اتخذها هذا العبد الضعيف ذات صباح من أوائل شتنبر من السنة المذكورة، ولكن أكثر شيء أشعل فتيل بهجتي لم يكن البذلة ولا الصور ولا الاستعداد للالتحاق بالمدرسة، إنما كان وسيلة التنقل التي ستكون دراجة نارية من النوع التقليدي ساش (Sachs  تلك الوسيلة المكلفةُ ملكيتُها، والمعقدةُ قيادتها؛ ولكن ذلك لا يهم الصغار مثلي، كل ما يهمهم أنها وسيلة تسمح بتأمل جوانب الطريق والاستمتاع بهواء الصباح بشكل مباشر، ولكن سرعان ما تتحول المتعةُ تلك إلى خوف وقلق واضطراب بوصول الطريق المعبدة التي ستحول السرعة بها نسمةَ الهواء تلك إلى إزعاج الرياح والخوف من السقوط. ولكنها البراءة وضعف الكيان.  



[1]. ما يأتي بعد الباء يكون مطروحا. قال تعالى على لسان موسى: ﴿أتستبدلُونَ الذي هُو أدنى بالذي هُو خير اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾. وهنا إحالة على سأم بني إسرائيل المن والسلوى، فتمردوا، وخاطبوا موسى بلغة منافية للفطرة الربانية ليدعوا الله ليخرجهم مما تنبت الأرض. (فالذي هو أدنى) في الآية هو نبات الأرض. و(الذي هو خير) فيها هو المن والسلوى، وهو طعام الجنة. ومن طبع الإنسان أن يسأم طبعا. ولكن الله يهدي من يشاء.

[2]. نسبة إلى سوس (السوس الأقصى). كان يطلق هذا الاسم قديما على سهل سوس الحالي، وهي منطقة جغرافية تقع جنوب المغرب، تحده سلسلة جبال الأطلس الكبير من الشمال، وسلسلة جبال الأطلس الصغير من الشرق والجنوب، والمحيط الأطلسي من الغرب. تمثل ربع مساحة المملكة المغربية. تشتهر بوجود غابات الأركان الجيد والنادر، كما تشتهر أيضا بالفلاحة، حيت إنها من أكثر المناطق المسقية. والممون الأول للسوق المغربية بالخضر والفواكه على السواء.

[3]. جمع المهارة والاحتراف من كل ناحية في مجال اشتغاله، والدليل أن خلفه من الأبناء يتنكبون كل علاج إذا تعلق الأمر بالرأس. فورثوا منه علاج الكسور والفدع لا غيره.  

[4]. مصطلح “طبيب” هنا أريد به الحاذق الماهر. ولا أريد به هذا المدلول الذي يتمثل في أذهان جُل الناس عند سماعهم لفظة طبيب. والرجل المذكور ماهر حاذق بلا منازع.

[5]. الحصبة علة تعرف بــــــ “بوحمرون”: Rougeole. وفي اللسان  الإنجليزي يطلق عليها: Measles.  

[6]. أنام في الظهيرة بينهم، وهم مرضى يعانون.   



 


شكوكو  والعقاد أي علاقة؟!

 

 

سأل صحفي الأديب المصري عباس محمود العقاد رحمه الله:

 من منكما أكثر شهرة: أنت أم محمود شكوكو؟ وشكوكو هذا كوميدي مصري، هزلي مشهور، كان يرتدي أسمال المهرجين لإضحاك الناس. فرد عليه العقاد مستغربا:

من يكن محمود شكوكو؟

وبلغ مدار المحادثة شكوكو، فقال للصحفي: "قل لصاحبك العقاد أن ينزل إلى ميدان التحرير، ويقف على أحد الأرصفة، وأقف أنا على الرصيف المقابل، وسنرى حينها من منا يملك أنصارا.

بلغ الصحفي كلام شكوكو للعقاد، فرد عليه العقاد قائلا: "قل لشكوكو أن ينزل إلى ميدان التحرير، ويترك الرقص والتهريج على الرصيف الثاني حينها نحكم". كان رد العقاد ذا وقع ومضاضة في نفس شكوكو حقا. ورغم تلك المضاضة فهي تلخص واقعا مريرا، كلما تعمق الإنسان في الابتذال والهبوط والانحطاط ازداد أنصاره وازدادت شهرته. إنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن المجتمعات العربية  ترفع الوضيع والمهرج وتنزل الرفيع. كما نستفيد من الخطاب أن السذاجة والتهريج والسطحية والتفاهات ليست بظاهرة جديدة، فثمة انتقادات لهذا الميل العجيب المتدني منذ عهد سقراط، لكنه لم يبلغ نضجه إلا في وقتنا الراهن.

في كتاب "نظام التفاهة" للكندي يخلُص فيه إلى أن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في الوقت الراهن، لقد أمسكوا بكل شيء: بتفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القِيم والمبادئ الراقية وإفسادها، يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقِيمًا! إنه زمن الصعاليك الهابط! فكا أكثر أمثال شكوكو في عصرنا وما أقل أمثال العقاد!.





علمُ المناعةِ والخوفُ من الجراثيمِ

 

 

وافت المنية أبا الطب بقراط حوالي 370 ق. م، إلا أن وراء هذه الشخصية مَعينًا لا ينضب، شكله هذا الموروث الطبي، وهذه القيمُ الأخلاقيةُ التي غدت نواةَ الممارسةِ الطبية وعمدَتها على الصعيد العالمي. وقد ارتكزت مدونة الجمعية الطبية الأمريكية لأخلاقيات المهنة بشكل رئيس على الأفكار التي أخرجها بقراط لأول مرة إلى الوجود بما فيها التزامه بمبدإ "اجتناب ضرر" المرضى وحفظُ حالاتهم الطبية لتغدو سرية وآمنة.

غير أن المبادئ الأساسية لفلسفة بقراط في مجال الأمراض ستتراجع في الأخير وتتلاشى لتحل محلها نظريات جدٌدٌ بما فيها ذلك الفكرة التي تنص على أن الجراثيم والميكروبات تسبب المرض. أطلق عليها اسم "نظرية الجرثومة"، وهي فلسفة منطلقها أن العِلل (الأمراض) وليدةُ أجسامٍ ممرضة، تلج الجسمَ فتبدأ في التكاثر: فعندما تعتري الجسمَ "عدوى/ جرثومةٌ باردة" على سبيل المثال، فإن هذا الجسمَ قد يبدأ في اكتساب أنظمة باردة مع نموه التدريجي المتسم بالمرض والاحتقان.

إنها إيديولوجيا وصلت الساحة الطبية بعد وفاة بقراط بزمن طويل، فاكتسبت زخمًا ونفوذا كبيرين في كافة ربوع أوروبا وأمريكا الشمالية ما بين 1580 و1920. وقد تمسك بها اليومَ كثيرون. وبالتباين الجذري عن فلسفة المرض الخلَطية[1] التي عمَّمها بقراط وكثيرٌ من أتباعه، ستغدو نظرية الجرثومة أخيرا المعيار الذهبي للممارسة الطبية خلال القرن العشرين وما بعده.

كانت وراء الانتشار الواسع لنظرية الجرثومة عواملُ عدةٌ، لعل أبرزها تنكبُّها بنجاح كافةَ التفصيلات المعقدة[2] المرتبطة بنظرية الأخلاط وغيرها من نظريات المرض العريقة التي تتطلب مستوى معينا من التفكير خارج "مربع" التفكير النقدي، وهو ما يعني تنكب الأطباء عددًا كبيرًا من العوامل المعقدة التي يمكن أن يكون لها إسهام في حصول مرض معين، كما يعني إغفالهم التفكير ولو بشكل خاطف في العناصر الخارقة للطبيعة المتأصلة في النظرية البقراطية. وباختصار، في تعاملنا مع الجراثيم، فإن الأمرَ في غاية البساطة؛ فقد تصيب المرءَ وقد لا تصيبه.

ساعدت نظرية الجرثومة في تراجع الأمراض إلى تلك التفاعلات البسيطة بين البكتيريا المجهرية والطفيليات. ودون الحاجة إلى الاهتمام الدقيق بالتأثيرات البيئية كالحمية، والمناخ، والتهوية، وغيرها من العوامل الرئيسة في الإدراك المبكر للصحة والمرض على السواء، نجد لها أعمالا منها بحث تاريخي بعنوان "العدوى: نظرات تاريخية في الأمراض والأوبئة" من منشورات جامعة هارفارد الأمريكية.

والحق يقال، ظهر عدد كبير ومتنوع من نظريات الجرثومة في وقت مبكر دون توقع خلال القرن السابعَ عشرَ، وقد كسبت اللقب الرسمي بمئات السنين قبل التَّكرار الذي عتاده كثير من الناس اليوم، واستطاع نوابغ ذلك الوقت أن يساندوا ويدفعوا بهذه النظريات الدينامية إلى أن حققوا نظريةَ جرثومةٍ موحدةٍ تتماشى وتبدل المبادئ الاجتماعي.

طُورت نظريةُ الجرثومة في بيئة اجتماعية، وثقافية، واقتصادية. وقد سلطت الضوءَ باطرادٍ على القيم الجماعية، والقيم الإنتاجية، والمعايرة، والكفاءة. وكلها مفاهيم توافق علمَها، كما توافق الشعبيةَ والتعميمَ، وهي نقطةٌ رئيسةُ بلورها بحث جامعة هارفارد باعتباره أحد الأعمال المنشورة في هذه النظرية كما سبقنا الإشارة. 

ومع السبب الجذري وراء كل الأمراض التي تم تبسيطها في أن الأمراضَ وليدةُ ولوج أجسام أو عوامل ممرضة الجسم، ستسهم المبادئ الرئيسة لنظرية الجرثومة في طرح أنموذج طبي جديد (Paradigm)، والذي سرعان ما غدا الأنموذج المعيار في علاج الأطباء مرضاهم، فكان تدبير الأعراض عن طريق استخدام العقاقير البتروكيماوية التي حصلت براءةَ اختراع.

بزرت صِناعة الأدوية وعلم اللقاحات نتيجة نظرية الجرثومة، تلك النظرية القائلة بأن بإمكان الإنسان اكتساب مناعة ضد الأمراض وليدة الأجسام الممرضة، وذلك عن طريق زرق اللقاح. ويعتمد كلا المفهومين (الصناعة/ اللقاح) تصدي نظرية الجرثومة للطفيليات المعدية، ولذلك كان تركيزهما على العقاقير والزرق الكيميائية.

كان لـإدوارد جينر Edward Jenner [3] الفضلُ الكبيرُ في تطوير أول لقاح في العالم؛ لقاح ضد الجدري: فخلال عصره (ق. 19)، كان هذا المرض متفشيا بين الناس عدا في أوساط الخادمات اللواتي يمتهن حلب الأبقار كما ورد في الأسطورة، وهن اللواتي كُنَّ يتعرضن بشكل اعتيادي لجدري البقر وذلك عن طريق احتكاكهن بهذه الحيوانات أثناء عملية الحلب. وقد افترض جينر أنهن يتمتعن بنظام مناعة استثنائي نتيجة ملامستهن صديد تلك الأبقار المصابة عند حلبها، وهو ما طبقه هذا العالم في التطور العلمي لأول تطعيم توافق عليه الحكومة للناس.

اهتم جينر أيما اهتمام بالإمكانات المناعية في تعريض جسم الإنسان عمدا للمرض قصد إثارة استجابة مناعية، ومن ثم توليد مناعة طبيعية. وهو ما قاده إلى إجراء جملة من المناولات التي وظفها أخيرا للتحقق من نظريته. وقد أدرك أنه يمكن وبكل بساطة توليدُ مناعة ضد مرض الجدري، وذلك من خلال التعرض لهذا المرض بشكل طفيف. وهي الفرضية التي ستكسب المصداقية والاعتماد في العالم الناشئ؛ عالمِ التسويق التجاري للقاحات.

نشر جينر الشيءَ الكثيرَ من دراساتِ حالة ليتحقق العالم كلُّه مما توصل إليه،[4] وقد مهَّد بحثُه هذا السبيلَ لتسمية هذه العملية الرائدة باسم "التطعيم". ومن أبحاث جينر هذا، اُقتُبس بشكل وظيفي ملائم ما اصطُلح عليه في اللسان اللاتيني باسم Vacca  والذي يعني "بقرة".

لم تكن أفكار جينر كلُّها بعيدةَ المنال من منظور مناعي، سيما إذا نظرنا حقا إلى أن بعض الروايات التاريخية حول المناعة يعود إلى سنة 430 قبل الميلاد. ونجد قبلَ جينر باحثير آخرين كثيرين افترضوا على النحو المطلوب أنه يمكن تجنب المرض عن طريق التطعيم على الرُّغم من بُدائيةِ[5] أساليبهم، وضعفِ نجاعتها إلى حد كبير.

سجَّلَ التاريخُ أن مزارعا بريطانيا يدعى بنجامين جوستي Benjamin Jesty  (1736 - 1816) اختبر لقاحه الخاص ضد الجدري على زوجته قبل عشرين عاما من تطوير جينر إصداره الخاص الأكثر شعبية إلى حد تفكير البعض في أن جوستي هو من يستحق الفضل الأكبر لكونه أول من ابتكر اللقاح الفعال ضد الجدري إذ نجح في علاج أهله[6] وابنيه على السواء قبل عِقدين من طرح نظرية جينر في الساحة الطبية. ولكن الشرفَ والفخر مُنحا أخيرا لجينر ليكون هو "الأب المؤسس" لعلم اللقاحات وعلم المناعة. ويرجح كثيرون ذلك إلى واقع الأمر بكونه الرائد في دراسة أمانِ لقاح الجدري وفعاليتِه موظفا في ذلك ما يعرف اليوم بالمنهج العلمي.

وقد أكسبه تحسينه للقاح الذي تعود نواتُه لسلفه منزلةً محترمةً انعكست في مجتمعات تعليمية عدة في كافة أنحاء أوروبا. ويستحق الطب الصيني القديم بدوره الشرفَ والفخرَ من الريادة في علم المناعة، وقد أشارت سجلات القرن العاشر ومخطوطاته إلى أن أطباء الصين قديما كانوا يعالجون المرضى باعتماد المنهج الاستقرائي للمناعة، عرف ب "التطعيم" قبل ميلاد الطبيب جينر بقرون عدة. وعلى غرار لقاحات العصر الحديث، يقتضي المنهج ذاك إخضاع الناس لآفات المرض إما عن طريق العضل، أو عبر التجويف كي يكتشفها نظامُ المناعة، وهو ما عرف عند الإغريق بأسلوب "الإعفاء" من الأمراض.

ثمة حقا عاملٌ وراء غياب التطعيم خلال العصر القديم. وعموما، لم تتم معايرته أو توحيده بشكل صحيح مطلقا، كما باء بالفشل في كثير من الحالات. لقد حاولت الدولة العثمانية (الأتراك) تبني تقنية التطعيم بوصفها سبيلا لتلقيح مواطنيها ضد الأمراض المعدية كالجدري، ولكن انتهى الأمر بكثيرين منهم بمقاساة آثار جانبية شديدة، ومنهم من ذهب ضحية سوء تحضير اللقاح ومناولته.

كانت لجينر تحسيناتٌ عدةٌ لتلك الأساليب المبكرة، من خلال أعمال شملت اختبارا علميا واسعَ النطاق، وهو ما سمح له بتطوير ما يراه كثيرون في الوقت الراهن على أنه استثمار؛ تطوير أول منهجٍ في العالم مدعومٍ علميا لتلقيح الناس بأمان ضد الأمراض. وقد مثل هذا الإنجاز الرائد الدافعَ الرئيسَ في تبلور اسم جينر اليوم في السجلات التاريخية بوصفه العلَم البارزَ والرائدَ في علم المناعة.

***

هوامش

[1] . نسبة إلى الخلَط، لأن بقراط أقر بأن الجسم الإنساني تكونه أربعة أخلاط كما سبقت الإشارة. راجع الإحالة رقم: 22.

2 . تخليها عنها (تنكبَ الشيءَ: ضربه بمنكبه، والمعنى تخلى عنه ولم يعره أي اهتمام).

3 . طبيب وعالم بريطاني (1749 - 1823). إليه يعود الفضل في اكتشاف أول تطعيم عرفته البشرية، ويتعلق الأمر بلقاح الجدري. وكان ذلك سنة 1796.

4 . وثائق المجتمع التاريخي من بيت الدكتور جينر بيركلي Berkely- إنجلترا.

5 . بضم الباء نسبة إلى البُداءة، أي الطور الأول من أطوار النشوء. وإذا قلنا "البدائية" (بالكسر)، كانت النسبة إلى البداية، وليست مقصودةً في هذا السياق.

6 . تطلق على الزوجة. وكانت زوجة المزارع جوستي أول من طبق عليها لقاح ضد الجدري. 

 

 

 

 

 

 



[1] . نسبة إلى الخلَط، لأن بقراط أقر بأن الجسم الإنساني تكونه أربعة أخلاط كما سبقت الإشارة. راجع الإحالة رقم: 22.

[2] . تخليها عنها (تنكبَ الشيءَ: ضربه بمنكبه، والمعنى تخلى عنه ولم يعره أي اهتمام).

[3] . طبيب وعالم بريطاني (1749 - 1823). إليه يعود الفضل في اكتشاف أول تطعيم عرفته البشرية، ويتعلق الأمر بلقاح الجدري. وكان ذلك سنة 1796.

[4] . وثائق المجتمع التاريخي من بيت الدكتور جينر بيركلي Berkely- إنجلترا.

[5] . بضم الباء نسبة إلى البُداءة، أي الطور الأول من أطوار النشوء. وإذا قلنا "البدائية" (بالكسر)، كانت النسبة إلى البداية، وليست مقصودةً في هذا السياق.

[6] . تطلق على الزوجة. وكانت زوجة المزارع جوستي أول من طبق عليها لقاح ضد الجدري.


تربية وتكوين

 فاجعة زلزال الحوز- تارودانت (08 شتنبر 2023م). ليلة الفاجعة كما عشتها...   في مساء يوم الجمعة 22 صفر 1445 هـ/ 8 شتنبر 2023، في تمام الساعة ا...